الثورة الجزائرية

في شوارع الجزائر ذاكرة لا تموت.. ذاكرة ثورة كتبت بدماء شباب لم يتجاوزوا الثلاثين، فهزموا إمبراطورية امتدت قرنا وثلث قرن. من بيان أول نوفمبر 1954 إلى معركة القصبة، ومن زهرة ظريف إلى علي لابوانت وجميلة بوحيرد، نحكي كيف انتصر الجزائريون، ولماذا بقي انتصارهم رمزاً خالداً للحرية والإرادة. أصوات المجاهدين، روايات المؤرخين، وحكايات المدن التي قاومت حتى النصر.

نص الحلقة

 

 

في مدينةٍ مَنَحت اسمها لكامل البلاد لا تحتاج إلى عينٍ فاحِصة خبيرة حتى تلتقط روح الثورة الحيّة في كل تفاصيلها. كل ما هنا يُنعش ذاكِرةً لا تموت ولا تنام، عن قصةِ شعبٍ ثار فقاوَم فأوَجع وانتصر. لن يكون السؤال عن حدثٍ واحد ولكن عن سلسلةٍ من الأحداث التي صنعت ثورةً كانت كِتاباً للتاريخ ومثالاً للحاضِر والمستقبل.

 

أول ما يُلفت انتباه القادم إلى العاصمة الجزائرية هو الحيّ الأوروبي الذي يبدو هارباً من أحياء باريس، هنا استوطَن الفرنسيون خالقين عالماً موازياً لهم على مدار قرن واثنين وثلاثين عاماً من الاحتلال، لكنهم هنا أيضاً ضاعوا وهُزِموا من أحياءٍ مجاورة فقيرة تكدّس فيها عدد هائل من المباني في شكلِ غابةٍ من الأحجار. ومن هذه الأحياء وتكتُّل الأحجار صِيْغَ تراث الجزائر وتاريخها ومُحِيَ نظام الفصل العنصري.

 

محمد الأمين بلغيث: العاصمة الجزائرية منذ بداية الاحتلال تعرّضت إلى عملية تقويض المدينة العربية، لم يبقَ من المدينة العربية إلا القصبة. العاصمة قبل 1954 كانت مُقسّمة إلى أحياءٍ أوروبيةٍ، معنى ذلك أن قلب العاصمة الآن لا يسكنه إلا الأوروبيون، من النادر أن تجد جزائرياً إلا في ما ندر. الأحياء الجزائرية أو العربية هي ذات كثافة سكانية عالية وهي تفتقر إلى الشروط الصحية، وهو ما تحدّثت عنه الأرشيفات الفرنسية حيث عانى الجزائريون من أمراض السِل وأمراض خطيرة جداً تسبّبت بوفّياتٍ كثيرةٍ في صفوف الجزائريين.

 

زهرة ظريف: لم ننل حقوقنا كمواطنين فرنسيين، ولم نكن نتمتّع بنفس حقوق الفرنسيين الأصليين، تربّينا في بلادنا وبلاد أجدادنا وعروقنا تنبض بالعروبة.

 

هبة محمود: ألم تنجح كل محاولات الاستعمار لفَرْنَسة المجتمع الجزائري وتحويله إلى الفرنسية والشعور بالانتماء إلى فرنسا؟

 

زهرة ظريف: هم كانوا يريدون كعبيدٍ لنخدمهم.

 

محمد الأمين بلغيث: يسخرون من الجزائريين من خلال نَعْتهم للسيّدة الجزائرية باسم فاطمة والسيّد الجزائري باسم "غوبيكو" أي مُتَخلّف وهذا هو سرّ الصراع على المستوى النفسي بين المجتمع الأوروبي الغازي لمجتمعٍ عربي مسلم يتشبّث بلسانه، بلغته، بدينه وبلباسه وتقاليده، اللسان العربي لم ينقطع من الجزائر رغم محاولة فرنسا طيلة أكثر من مئة سنة تغريب المجتمع الجزائري وإبعاده عن أصوله وجذوره وانتمائه المشرقي. لذلك فإن الصِراع الذي كان يدور في الجزائر هو صراع ثقافي. 

 

هبة محمود: مَن هم سكان القصبة؟

 

أحمد قريقة أحسن: حصل تغيير ديموغرافي كبير بعد الاحتلال الفرنسي لأن أغلب السكان الأصليين هُجِّروا اختياراً أو قَسْراً، بعدها أصبحت القصبة مقرّاً للمُهاجرين من الداخل إلى مدينة الجزائر وكلهم ضحايا للاحتلال، هم مقاومون في بلدانهم أو ضحايا المقاومة التي كان يقوم بها الشعب الجزائري.

 

دحو ولد قابلية: اجتماعياً كان الوضع سيّئاً، الشعب كان ضعيفاً، لم تكن هناك أعمال سوى العمل في مزارع المُستعمرين بنسبة لا تزيد عن 4 أو 5%.

 

أحمد قريقة أحسن: الأطفال الصغار كانوا هم الضحايا، لم يكن الطفل يستطيع أن يتعلّم بل يولَد رجلاً يتحمّل مسؤولية الكبار، أغلبهم عاشوا أيتاماً. كانوا في حالِ احتياجٍ وكان عليهم أن يعملوا كي يساعدوا عوائلهم، فكانوا إما ينظّفون الحذاء للفرنسي أو يذهبون إلى السوق لتحميل مُقتنيات السوق للفرنسيين بمقابلٍ زهيدٍ جداً، كانت مُعاناة كبيرة لأن أجدادهم عاشوا حياةً كريمة وكانت لديهم أملاك، أصبح الجزائري يرى أملاك أجداده أمام عينيه ولا يستطيع أن يدخل إليها لأنها كانت محتلّة من فرنسي أو من مُعمّرٍ إسباني أو مالطيٍ أو إيطالي بينما هو لا يحقّ له أن يتعلّم أو أن يعمل وينظر إلى المستقبل.

 

محمد الأمين بلغيث: بيان أول نوفمبر أنا أسمّيه في كتبي ومُداخلاتي الإعلامية الوثيقة غير المُزوّرة لأنه شاهِد على بداية استعادة الجزائر لعافيتها وسيادتها المُغْتَصبة في 5 يوليو 1830. الذين قاموا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه هم شبّان الجيل الخامس بمعنى أن فرنسا منذ 1830 حتى 1954 كانت قد أبادت ما يُقارب خمسة أجيالٍ من الجزائريين. لماذا لم نتمكّن من طرد الفرنسيين من أرض أسلافنا؟ السؤال بسيط جداً أجاب عنه أولئك الرجال الذين قالوا إن السبب هو أن الثورات كانت محلّية، ثورات مدن، ثورات قبائل وثورات طُرُق صوفية، حينما تطوّرت الحركة الوطنية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى 1914 بدأ الجزائريون يُناضلون على مستوى الوَعي، تأسيس النوادي، تكوين الصحافة ونشر التعليم بعد الحرب العالمية الثانية وبعد العفو العام وبعد المجزرة الكبيرة التي حدثت في 8 مايو 1945 والتي أدّت إلى مقتل ما يزيد عن 45 إلى 70 ألفاً من الجزائريين بدأ هؤلاء الرجال يعدّون العدّة من أجل الطريقة المُثلى لاسترداد حقّنا من خلال القاعدة المعروفة في عربيّتنا الجميلة "الحديد بالحديد يُفل"، وبالفعل تأسّست المنظّمة الخاصة التي نسمّيها "مخ الثورة" من جيلٍ شابٍ عَرَكته الحياة غالبيّتهم تعلّم فنون القتال في الحرب العالمية الثانية، غالبيّتهم مُتعلّمون وقد نجحوا بشكلٍ كبير في بداية تأسيس نواة عسكرية للتدريب على استخدام السلاح وجَمْعه، واستمرّت هذه المرحلة من 1947 لغاية 1954. 

 

دحو ولد قابلية: في الثورة الجزائرية معركتان، معركة عسكرية وسياسية داخل الوطن ومعركة سياسية ودبلوماسية خارج الوطن. في بيان أول نوفمبر ذُكِرَ صراحةً بأن هناك عملاً عسكرياً مقاوِماً وعملىً سياسيىً لتبيين وتبليغ رسالة جبهة التحرير، وأيضاً رِبَح الأصدقاء والرأي العام بصفةٍ عامة للقضية الجزائرية.

 

زهرة ظريف: في أول نوفمبر 1954 بدأت العمليات العسكرية في كل أنحاء الجزائر، كنا على يقينٍ حينها بأن الثورة الجزائرية بدأت لأنه كان هناك فيضان بشري في المجتمع الجزائري، كان عُمري حينها 19 عاماً وأخي 16 عاماً، الأمر كان صعباً، كانت الحركة منظّمة وسرّية    وصارِمة، لم يكونوا يعرفوننا خاصة وأننا كنا في مدارس وكليات فرنسية، كنا من الطبقة البرجوازية في الجزائر، لذا كان مشكوكاً في أمرنا، فكانوا يريدون التأكّد مما إذا كنا صدّاقين أو مُرسلين من قِبَل العدو الفرنسي. خضعنا للتجربة حينها وكانت تلك الفرصة التي جعلتنا ننخرط في الوسط الجزائري الذي لم نكن نعرفه جيّداً.

 

لم يمرّ يومٌ من دون عملٍ نضالي من شبابٍ لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين، حيث قرّرت جبهة التحرير التَغَلْغُل في كل مكان لإنهاء قصّة طغيان العالم الأول بحقّ العالم الثالث. موجاتٌ مُتعاقبة من الثورات وأثمان غالية دفعها الجزائريون قبل استسلام فرنسا.

 

أحمد قريقة أحسن: كل البيوت في القصبة كانت ملجأ للمُجاهدين في تنظيم المقاومة وشبكاتها. ذات يومٍ كان الاحتلال يبحث عن مجموعةٍ من المجاهدين الكبار من أمثال حسيبة بن بو علي، علي لابوانت، وعمر الصغير من مجموعة ياسف سعدي. قام الاحتلال بتفجير البيت من دون الأخذ بالحِسبان لما قد يقع، فكان نتيجة ذلك أن البيوت المجاورة لهذا المنزل انهارت، بقي هذا المنزل  نقطة تأثير في المقاومة ورمزاً للمقاومة الجزائرية وللثورة الجزائرية في منطقة القصبة. البلدان تؤخَذ من عواصمها ومعركة الجزائر كانت هي المعركة الحاسِمة التي أخرجت الثورة الجزائرية إلى الإعلام الدولي. في 11 ديسمبر كل الشعب خرج في =تظاهُرات وتحدّى السلطات الاستعمارية، وقد خرجت أولى تلك التظاهُرات من القصبة.

 

محمد الأمين بلغيث: الفرنسيون في أيام معصوم، في أيام المظلّيين والزرق، في أيام ذوي القبّعات الحمراء لم يتمكّنوا من القضاء على روح المقاومة، من الطبيعي أن أبناء القصبة وأبناء الجزائر العاصمة وأبناء المدن الكبرى كانوا قد أدّوا رسالتهم وواجباتهم التي قام بها أهل الريف من 1954 إلى 1957. علي عمّار كان نموذجاً للطبقة البسيطة الشعبية التي اندمجت في تاريخ الثورة الجزائرية المُباركة، ليس فقط بمعنى النُخَب، أحمد بومنجل، العربي بن مهيدي، كل الفئات الاجتماعية من الفلاح البسيط إلى مُعلّم القرآن الكريم إلى مُعلّم المدرسة الحرّة، هؤلاء كلهم شاركوا في الثورة.

 

هبة محمود: ابتسامة بن مهيدي التي قهرت العدو.

 

محمد الأمين بلغيث: خلال محاكمته قالوا له لماذا تقتلون الأبرياء بقفافكم وقنابلكم؟ قال أعطونا طائراتكم وأسلحتكم ومدافعكم وسوف نتخلّى لكم عن قفافنا. هذا الرجل حكيم الثورة، حين نتكلّم عن العربي بن مهيدي فنحن نتكلّم عن مستقبل أمّة تستحقّ الحياة.

 

هبة محمود: كيف أخرجتم القنبلة من حيّ القصبة؟

 

زهرة ظريف: كنا ذاهبون إلى الشاطئ، كنتُ أنا وحسيبة وجميلة وسامية، وضعنا القنبلة في الحقيبة وبدأنا نعوم في البحر وكان خلفنا أحد المُجاهدين. كان المُخطّط  حينها أنه إذا خضعنا للتفتيش أن نرمي بأنفسنا أرضاً على أن يقوم المُجاهد بقتلهم.

 

هبة محمود: هل أنتم مَن اخترتم مكان وضع القنبلة؟

 

زهرة ظريف: السعدي كان يثق بنا، نحن مَن قمنا بالعملية وقد أعطانا الحرية التامة كي نختار مكان زرع القنبلة. وضعنا القنابل في الأماكن التي تذهب إليها عائلات الأعداء وأبناؤهم، وقد اخترتُ حينها "الميلك بار"، بينما اختارت سامية رحمها الله مكاناً مقابل الجامعة، وجميلة اختارت مقهى Le Mauritania  ونفّذنا عملية التفجير. 

 

هبة محمود:  كيف استطاعت جبهة التحرير الحصول على السلاح لمواجهة دولة عضو في الناتو؟

 

دحو ولد قابلية: كان هذا العمل الخاص بعبد الحفيظ بوصوف الذي كان مُكلّفاً بالتسليح وهو الذي خلق لتأييد العمل السياسي شبكاتٍ كبيرة من الاستعلامات في الكثير من الدول الشقيقة، وكانت لديه عناصر في كل الدول تقريباً.

 

هبة محمود: َمن هي الدول التي دعمت الثورة الجزائرية عسكرياً بالسلاح؟

 

دحو ولد قابلية: كل الدول العربية تقريباً ومَن لم تقدّم السلاح دفعت الأموال لشرائه. الهدية الكبرى كانت من الصين الشعبية التي قدّمت حوالى أربع أو خمس بواخر من الأسلحة. 

 

هبة محمود: هل كان هناك جناح يرجّح العمل السياسي على العمل العسكري ويقول فلنوقِف العمل العسكري؟

 

دحو ولد قابلية: كلا، العمل العسكري لا يتوقّف.

 

هبة محمود: ألم يكن هناك جناح ضدّ العمل العسكري؟

 

دحو ولد قابلية: أبداً، لو توقّف العمل العسكري في الداخل لسَقَطَ العمل السياسي مباشرةً، لو نقص السلاح كان سيكون هناك نوعٌ جديد من الحرب، حرب الفداء التي زرعت الرُعب عند المواطن الفرنسي الأجنبي. في هذه المفاوضات كانت مطالب فرنسا غير مقبولة. 

 

زهرة ظريف: خلال المفاوضات قال ديغول الصحراء ستبقى لفرنسا ولكن الحكومة الجزائرية آنذاك رفضت الأمر.

 

هبة محمود: يعني تأخّر استقلال الجزائر وحرية الجزائر من أجل الصحراء لعدم التخلّي عنها وعدم قبول التقسيم.

 

دحو ولد قابلية: في كل الميادين وفي كل الجهات وفي كل المحافِل الدولية كانت كلمة جبهة التحرير معروفة ومقبولة ومؤيَّدة، والدور الكبير لعبته الدبلوماسية الجزائرية في الأمم المتحدة. 

 

محمد الأمين بلغيث: الثالثة وهذه للأمانة والتاريخ، قضية الجزائر جاءت في ظرفٍ دولي رائعٍ جداً هو الصراع بين الشرق والغرب، فقد وجدت هذه الثورة تعاطُفاً على مستوى تاريخ العالم، نحن دفعنا الثمن غالياً، منذ اليوم الأول من شهر نوفمبر 1830 لغاية 1962 كلها كانت عبارة عن مجازر، الناس يقولون عن الجزائر بلد المليون شهيد، كلا، أكثر من مليون ونصف مليون شهيد لأن الفرنسيين حينما قاموا بعمليات المَسْح للجبال والوِهاد التي كانت مركزاً للثورة كانوا يقتلون كل ما يتحرّك.

 

أحمد قريقة أحسن: فرنسا تخلّت عن معظم المُستعمرات في أفريقيا وأتوا بقوّاتهم التي كانت في أفريقيا لضَبْطِ الجزائر لكن إصرار الجزائريين وإيمانهم بضرورة الاستقلال واسترجاع دولتهم هو الذي أدّى إلى هذه النتيجة.

 

هبة محمود: لماذا انتصرت الثورة الجزائرية؟

 

دحو ولد قابلية: بعزيمة الشعب وبإرادته الذي لا يقبل بحلّ إلا الاستقلال.

 

هبة محمود: ما هي الخلاصة والدرس الذي يمكن أن نستفيده من الثورة الجزائرية؟

 

زهرة ظريف: أنه حين يكون الشعب موحَّداً ولديه الرؤية الواضِحة والثاقِبة فلا شيء يغلبه.

 

هبة محمود: هل تخافين على الجزائر؟

 

زهرة ظريف: كلا، الاختلاف في الرأي هو أمر طبيعي ولكن ما يوحِّدنا هو حبّ هذ التراب. الصغار يعرفون تاريخ بلادهم ويدركون مُعاناة عائلاتهم وكم الدماء التي سالت لكي نصل إلى الحرية.