المطران بولس مطر - النائب البطريركي العام

نص الحلقة

 

 

روني ألفا: في أوقاتٍ مفصليةٍ قد يتغيّر وجه وطن، أحياناً يكفي أن يصل ضيفٌ استثنائي يحمل كلمةً أو صلاة أو نظرة أبعد من الأفق. لبنان اليوم يقف عند حافّة أسئلةٍ كثيرة، بلدٌ صغير لكن صوته يتردّد بين الشرق والغرب، بين الذاكِرة والبحث عن مستقبلٍ على طريق الولادة، زيارة البابا لاوون الرابع عشر ليست حدثاً بروتوكولياً، ليست رحلةً عابِرة، إنها علامة، خطوة من الفاتيكان نحو بلدٍ تَعِبَ لكنه لم يستسلم. خطوةٌ تقول إن لبنان لا يزال وطن الرجاء، لا يزال رسالة، لا يزال ضرورةً في هذا الشرق المُتغيّر، في زمنٍ تتراجع المسافات بين الأديان أحياناً وتتباعد في أحيانٍ أخرى تأتي الزيارة كمساحةٍ للحوار، لحوارٍ يحتاج إليه الجميع قبل أن يحتاج إليه اللبنانيون أنفسهم، للشباب الذين يرحلون، للمؤمنين الذين يبحثون عن عزاء، للمجتمع الذي يريد أن يتذكّر أنه قادرٌ على النهوض. الكرسي الرسولي يطلّ على لبنان من نافذةٍ أكبر، نافذة العدالة، المُصالحة، إعادة بناء الثقة، وهي نافذةٌ تقول إن الألم ليس نهاية. معنا اليوم المطران بولس مطر شاهِدٌ على تحوّلات العقود وصوتٌ يعرف جيّداً معنى لبنان في قلب الكنيسة. نسأله ما وراء الزيارة، ما رسائلها الخفيّة، أبعادها العميقة، وما يمكن أن تعنيه لبلدٍ يقف الآن بين الخوف والرجاء. سيادة المطران بولس مطر أهلاً وسهلاً بكم من كنيسة القدّيس جرجس المارونية التي تعانق أجراسها مآذن مسجد محمد الأمين.

 

المطران بولس مطر: شكراً العزيز روني على هذه المقدّمة، وأشكر كل المشاهدين في لبنان وفي العالم العربي وفي كل مكان يستمعون إلينا نتحاور حول لبنان ودور لبنان ومستقبل لبنان، هل نُكْمِل بالفُصحى؟

 

روني ألفا: كما تريدون سيّدي.

 

المطران بولس مطر: قداسة البابا الجديد أطلّ من على شُرفة مار بطرس يوم انتخابه بابا، وقال للعالم ليس لديّ شيء أحمله إليكم إلا السلام وسلام الله، سلام الله ينزل إلى الأرض التي هي بحاجةٍ إلى سلامٍ. وكان قد سبق للبابا الراحل أن وقّع وثيقة أساسية مع حضرة الشيخ إمام الأزهر الشريف يقولان فيها إن المسلمين والمسيحيين وكل أهل الأديان في العالم إخوة، نحن البشر إخوة في الإنسانية. كنا نقول سابقاً إن الإنسان هو إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، هنا تطوّرت الأمور بشرحٍ وافٍ. إمام الأزهر قال إن المسيحيين والمسلمين في الشرق إخوة، قال هذا في مؤتمر الأزهر الذي كنت حاضراً فيه، والآن يأتي البابا والشيخ ليقولا للعالم كلنا إخوة في الإنسانية، ولكن هذه الأخوّة تُصْنَع والغريب أو المُصادفة أن أول أخ في التاريخ قتل أخاه، الأخوّة مُصابة بالخطيئة، وإذا تحرّرت من الخطيئة عادت أخوةً حقيقية، لذلك فإن الأخوّة تُبنى والسلام يُبنى، والبابا عندما وصل إلى لبنان قال "شعار رسالتي في هذه الزيارة طوبى لفاعلي السلام، نحن لسنا طلاب سلام وحسب، لسنا مُترقّبي سلام، نحن نفعل من أجل السلام. كيف ذلك؟ يُبنى السلام على العدل وعلى الأخوّة. 

 

روني ألفا: بناءً على ذلك سيّدنا ما هي الرسائل الكنسية والرسائل الروحية الكبرى التي تعتقدون أن البابا لاوون الرابع عشر يريد أن يوجّهها للبنان عبر هذه الزيارة في لحظةٍ إقليمية شديدة الحساسية؟

 

المطران بولس مطر: بكل صراحة في هذا الشرق نتكلّم كثيراً عن الله ولكن هل نسمع كلامه؟ هذا أمر آخر، نريد أن نعطي السلام لبعضنا البعض ولكن هل نعطيه حقّاً؟ لذلك فإن قداسة البابا يطلّ في لبنان إطلالاتٍ أساسية، الأولى بالنسبة إلينا هي إطلالته على قبر القدّيس شربل ليقول للبنانيين أرضكم أرض قداسة، أرض رسالة وسلام. المسيح هو في لبنان، في صور وصيدا، لذلك بعد خمسين عاماً من الحروب ورفض الآخر والتصوّر الخاطئ لبعضنا البعض، آن الأوان أن نستعيد الأخوّة وأن نستعيد القوّة من الله القادِر على أن يُغيّر كل شيء. يطلّ ويركع أمام قبر القدّيس شربل ليقول للبنانيين صلّوا وأسأل الله أن يُبارككم. الإطلالة الثانية لها دور أساسي في دير الصليب حيث الألم ومُداواته، =حيث التضحية في سبيل الآخر، ليقول للبنانيين أنتم تبنون بالمحبّة وحدها وطنكم، الدساتير تروح وتجيء، الدستور جامِد وناشِف، المحبّة هي ضوءٌ للدستور، لذلك من دون المحبّة لن يُبنى لبنان، هذا ما يقوله في دير الصليب، ثم ينتقل إلى بيروت حيث له لقاءات ثلاثة، على مرفأ بيروت يصلّي على نيّة الضحايا ويطلب من الله أن يُلْهِم اللبنانيين لأن يسألوا عن العدالة وأن يحقّقوها. هذا أمر أساسي ثم يأتي إلى خيمةٍ على ساحة الشهداء بالقرب من هذه الكنيسة حيث يجتمع بالمسيحيين والمسلمين قادةً ورؤساء وأحزاباً ليقولوا بعضهم لبعضٍ نحن هنا، لماذا لا نكمل المشوار سويّةً خاصةً لأن المسلمين والمسيحيين مدعوون منذ البدايات لأن يلتقوا. نحن تأثّرناً جدا بالتاريخ الإسلامي الذي يقول أموراً أساسية وجوهرية عن الدولة الإسلامية الأولى في المدينة. الرسول العربي يقول قولاً مُذهلاً "إن المؤمنين والمسلمين أمّة واحدة"، المسلمون معروفون ولكن هم مَن هم المؤمنون؟ أهل الكتاب، المسيحيون، يقول إن المسيحيين والمسلمين أمّة واحدة بمعنى أنها أمّة للعيش معاً، أمّةٌ للتلاقي، وبتاريخ الإسلام العربي هناك تواصُل بين المسيحيين والمسلمين لم ينقطع حتى في الجزيرة العربية، وفي دمشق وبغداد والقاهرة وفي بيروت وحلب والغرب العربي. نحن صنعنا تاريخاً مشتركاً، بنينا ثقافةً مشتركة، في المسيحية بعض الإسلام وفي الإسلام بعض المسيحية. إذا كان الأمر لماذا لا ننهض ببعضنا البعض، المسيحيون والمسلمون هم في أرضهم هنا في الشرق ونحن إخوة، إذاً ليس من الضروري أن يُهجَّر المسيحيون لا في العراق ولا في سوريا. سمعتُ مؤخّراً أن المسيحيين في سوريا قبل الحرب كانوا مليونين، أما الآن فهم 500 ألف، هذه كارثة، لماذا؟ مَن الرابِح ومَن الخاسِر؟ كلنا خاسِرون إذا تركنا بعضنا بعضاً. 

 

روني ألفا: سيّدنا لفتّم نظري إلى أمورٍ جوهرية في الوجدان المسيحي وفي الوجدان الإسلامي، وقلتم إن في المسيحية شيء من الإسلام وإن في الإسلام شيءٌ من المسيحية. في لبنان الإسلام يُعاش ثقافياً على أنه جزء من التراث المسيحي والعكس بالعكس، ما هو المطلوب؟ وكيف يمكن أن تُسْهِم هذه الزيارة الرسولية في شدّ أواصِر المسيحيين والمسلمين في لبنان وفي توحيدهم على قِيَمٍ مشتركة؟

 

المطران بولس مطر: المطلوب هو أن نأخذ الأمور بالجدّية، نحن لا نتعاطى جدّياً بهذه الأمور، نتعاطى بالشكليات، نتعاطى بالتجارة، نتعاطى بالمال، لم نتعاطَ كفايةً بالأمور الأساسية والجوهرية. أعتقد أن الثقافة يجب أن تفعل فِعلها في لبنان، لبنان يتراجع ثقافياً عندما نتجاهل بعضنا بعضاً، عندما نعرف بعضنا بعضاً فهذا تقدُّم ثقافي، الموضوع هو موضوع ثقافي، في الجامعات، في المدارس، في البيوت، في =المؤسّسات، في الأحزاب، أعطيك مثالاً على ذلك، الحزب الديمقراطي المسيحي في إيطاليا تذهب كوادره إلى جامعات مسيحية ليتعلّموا عن المسيح.وعن الثقافة المسيحية. نحن في السياسة لا نكتفي بأمورٍ عارِضة بل يجب أن نبني سياستنا على الجوهر، على أرسطو وأفلاطون، على يسوع المسيح، على الرُسل، على كل هذه الأمور التي توسِّع آفاقنا وتعطينا قيمةً مُضافة نتاجر بها بالنسبة إلى لبنان. 

 

روني ألفا: سيّدنا إلى أيّ مدى ترتبط هذه الزيارة بسعي الكرسي الرسولي إلى حماية الوجود المسيحي في الشرق وإلى تعزيز دور المسيحيين في الحوار الإسلامي المسيحي؟

 

المطران بولس مطر: هذا قد ينفع وقد لا ينفع، مجيء البابا فرصة هل نتّخذها؟ هل نتلقّفها؟ هل هل نعمل بموجباتها أم لا؟ نحن شاطرون بإضاعة الفُرَص، يجب أن نأخذ هذه الفرصة. نحن في لبنان إخوة، هل الصراعات بيننا تدور تحت سقف الأخوّة أم فوقه؟ مع الأسف فوق سقف الأخوّة، نُنكر بعضنا بعضاً، نتنكّر لبعضنا البعض، نرفض بعضنا البعض وهذا أمر غير مقبول. تعالوا نقبل بعضنا البعض من جديد، تعالوا نحبّ بعضنا من جديد، نقّدر بعضنا من جديد، نقف على جِراح الآخر ونحاول أن نبني بعضنا بعضاً، نساعد المُحتاج كائناً مَن كان. نحن نتكلّم، هناك نوعان من الشعوب، الشعوب التي تحكي والشعوب التي تفعل، نحن بحاجةٍ لأن نحكي أقلّ ونفعل أكثر.

 

روني ألفا: سيّدنا هل الجنوب في وجدان قداسة البابا؟ وهل تعتقدون أن هذا الجنوب المكلوم المجروح اليوم يحظى بحيّزٍ من صلاة قداسة البابا؟

 

المطران بولس مطر: بكل تأكيد، الجرح جرح والدماء دماء، والإخوّة إخوّة، الجنوب جنوبنا، وأنا كبطريرك ماروني منذ عهد الحويّك ماروني دافعنا عن حدودنا الجنوبية عندما كان الصهاينة يريدون أن يضعوها في الليطاني. نحن دافعنا عن الحدود الجنوبية كما هي اليوم بحدودها الحاضرة، هذا كان في الماضي، ماذا تغيّر، نحن كلنا هنا حاضرون، في السياسة طبعاً نتنافس ولكن خدمةً للبنان، ليس خدمةً لذاتي وإنما خدمةً لوطني. توصية الفاتيكان أن نهتمّ بالجنوب مثل الشمال مثل بيروت، والسفير البابوي ذهب مراتٍ عديدة إلى الجنوب حتى خلال الحرب، لذلك نحن لا نتنكّر.

روني ألفا: سيّدنا هل تحمل هذه الزيارة رسالةً وطنية أم رسالة سياسية أم روحية لأركان الحُكم في لبنان، للشعب اللبناني؟ هل تعتقدون أن هناك حيّزاً أو مكاناً لما يُسمّى حياد لبنان أو تحييد لبنان عن صراعات المنطقة عبر هذه الزيارة؟ وكيف يقرأ الفاتيكان هذا الطرح اليوم؟

 

المطران بولس مطر: الفاتيكان أعلن الشعار، لبنان أكثر من وطن، لبنان رسالة للشرق والغرب، رسالة بالحرية والتعايش المشترك السوي والأخوّة. هذا ما نريده، لبنان الحرية والعيش المشترك المتساوي، كيف نحقّق هذا الأمرفي لبنان بعيداً عن الصِراعات، مواقفنا واضحة، نحن مع الحقّ في كل مكان، في لبنان وفي فلسطين ولبنان لم يكن غائباً عن فلسطين يوماً منذ ثمانين عاماً إلى اليوم وسيبقى مع قضية فلسطين من دون أن يحمل وِزرها وحده. اليوم هناك مشكلة، قد يكون الإخوة العرب يريدون شيئاً من الهدنة الطويلة ريثما تتغيّر الأمور، هناك جو يدعو إلى الارتياح والسلام وعلينا أن نستفيد من هذا الظرف. لبنان لا يريد أن يكون بعيداً عن الإخوة العرب كي يعيش حياة البرجوازية أو يتشمّس هنا وهناك، لبنان لا قيمة له إلا إذا ناضل من أجل الحرية له ولغيره على السواء. 

 

روني ألفا: سيّدنا اسمح لي بهذا الاستفسار، شعار هذه الزيارة الرسولية الكبيرة هو "طوبى لفاعلي السلام"، هناك سلام داخلي بين الإنسان والإنسان، هناك السلام داخل الوطن الواحد وهناك السلام بالمعنى الأوسع والأعمّ، عن أيِّ سلامٍ نتكلّم في هذه الزيارة؟

 

المطران بولس مطر: أنت تعرف أن السلام الإنساني العادي هو سلامات، مثلاً قد يكون سلام العبيد، القوي يفرض نفسه على الضعيف ويعمّ السلام، هذا سلام العبيد أو أن يكون السلام سلام التوازن في القوى، روسيا وأميركا والصين، لكن هذا التوازن في القوى قد يتغيّر، لذلك لا يبقى ولا يستمر. الجنرال ديغول عندما أطلق نداءه في بداية الحرب قال "قوةٌ مادية ضربتنا وغلبتنا، وستأتي قوّة أكبر من تلك التي ضربتنا وسوف نضربها من جديد". لا سلام يبقى في التوازنات، السلام الباقي هو سلام الداخل، عندما أقول أنت أخي وأنا أخوك حتى وإن كنا من بلدانٍ مختلفة، لذلك يجب أن نسعى إلى سلامٍ روحي يبني سلام المدينة. 

 

روني ألفا: سيّدنا في ظلّ =التوتّرات الإقليمية والتهديدات التي يشهدها لبنان هل يُشجّع البابا من خلال هذه الزيارة الأطراف اللبنانيين ربّما على مقاربةٍ جديدة للاستقرار السياسي الداخلي؟

 

المطران بولس مطر: كل ما يتوافق عليه اللبنانيون يباركه البابا، يتوافق عليه بصراحة وبمحبة، أنا الماروني عندما أعتبر أن قضية آخر شيعي في آخر قرية هي قضيّتي أكون لبنانياً حقّاً والعكس بالعكس، أن يهتمّ أحدنا بالآخر، هذا فيه بعض الشيء ولكننا نسعى لأكثر من ذلك، التضامن الحقيقي بكل ما للكلمة من معنى يبني لبنان. 

 

روني ألفا: سيّدنا أصبح القدّيس شربل ليس أكثر من مزار وأكبر من قدّيس محلّي، وباتت صوَره منتشرة في العالم وعلى جدار الفاتيكان أيضاً، قداسة البابا سيُصلّي على ضريح القدّيس شربل. هل تعتقد بأن هذه الزيارة ستُسهم في أن يترك لبنان عكّازه قرب الضريح ويعود وطناً للسلام؟

 

المطران بولس مطر: نأمل ذلك ولكن الربّ يسوع يقول "طوبى لفاعلي السلام"، السلام يُبنى حجراً بعد حجر، ولذلك نستلهم مار شربل الذي عمل ما عمله، توسّل من الله شفاءً للمرضى والمُقعدين.من الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس والدروز والشيعة والسنّة وكل أهل الأرض. كنتُ في ألمانيا وسُئلتُ عن مار شربل، ذهبتُ إلى أوكرانيا إلى مدينة في الجنوب والغرب، ذهبتُ إلى الكاتدرائية فرأيتُ فيها صورة لمار شربل، في نيويورك كذلك في السان باتريك توجد أهم جدارية لمار شربل. مار شربل علّمنا أن نحبّ جميع الناس، قام بما عليه وهو يساعدنا في شفاء المرضى، يجب أن نشفي أمراض نفوسنا بالداخل. 

 

روني ألفا: سيّدنا السؤال الأخير، في ظلّ هذه الزيارة الرسولية الكبير أيُّة صلاة المطران بولس مطر يتلوها على نيّة لبنان؟

 

المطران بولس مطر: صلاة الأبانا، تعلّمنا أن نصلّي كجماعةٍ، أبانا أعطنا خبزاً، مَن نحن؟ كل البشر، كل اللبنانيين، إما أن يكون كل لبنان أو لا يكون.

 

روني ألفا: سيّادة المطران بولس مطر أشكركم على وقتكم وعلى هذه المقابلة القيّمة التي وفّرتموها لقناة الميادين. 

 

المطران بولس مطر: أنا أشكرك بدوري وأشكر المشاهدين على حُسن صبرهم معنا وعلى الله التوكّل.

 

روني ألفا: شكراً سيّدنا....