السوبرانو الأردنية الفلسطينية زينة برهوم
الشاعر والإعلامي زاهي وهبي يستضيف السوبرانو الأردنية – الفلسطينية زينة برهوم في حوار ثري تحدّثت فيه برهوم عن مسيرتها في عالم الغناء الأوبرالي، والصعوبات التي واجهتها في نشر هذا الفن الراقي في العالم العربي، وكيف استطاعت أن تجعل صوتها جسراً بين الثقافات. كما تناول اللقاء حضور فلسطين والأردن في تجربتها الفنية، ودور الفن في حفظ الهوية وإيصال الرواية من خلال الإبداع لا الخطاب المباشر. وتوقّفت برهوم عند معنى أن يكون الفنان سفيرًا لبلده وقضيته، يحملها معه إلى المسارح الدولية بكل فخر، ويعرّف الجمهور العالمي بجمال ثقافته ونضال شعبه عبر الموسيقى والفن.
نص الحلقة
زاهي وهبي: مساء الخير.
من بين الأصوات التي تعلو فوق حدود الجغرافيا واللغة ينبعث صوتٌ يحمل في نَبَراته روحًا شرقيةً أصيلة، لكنها قادرة على مُخاطبة العالم أجمع.
فنّانة راقية اتّخذت من الأوبرا صِلة وَصْلٍ بين الحضارات، ومن صوتها رسالةَ حوارٍ إنساني وثقافي. من قصور أوروبا العريقة إلى مسارح الوطن العربي تسير بعزمٍ وثبات، وبحلمٍ لا يعرف المستحيل، حامِلةً معها تُراثًا موسيقيًّا غنيًّا، وهِمّةً عاليةً تحدَّت كلَّ الصِعاب.
الليلة نتعرّف إلى قصّة طفلةٍ اكتشفت موهبتها في كورال المدرسة، فأصبحت مؤسِّسةً لمهرجان عمّان للأوبرا.
مسكُ الكلام مع السوبرانو الأردنية الفلسطينية زينة برهوم. أهلًا وسهلًا، نوّرتِنا وشرّفتِنا.
زينة برهوم: أهلًا فيك، بوجودكم. شكرًا كثيرًا على استضافتكم الجميلة وعلى المُقدّمة الجميلة أيضًا.
زاهي وهبي: كبداية، بصفتكِ مؤسِّسةً لمهرجان عمّان للأوبرا، إلى أيِّ حدٍّ يعني لكِ هذا الأمر؟ ولماذا مهمٌّ أن يكون هناك مهرجانٌ للأوبرا في عمّان أو في أيّة عاصمةٍ عربيةٍ أخرى؟
زينة برهوم: أوّل شيء: يُثقّف المجتمعَ فنيًّا، ليس فقط لأجل، الآن طبعًا المجتمعات عندنا ثقافةٌ عريقة، وعندنا تاريخٌ مهمٌّ جدًّا، لكن الثقافة المسرحية غير موجودة في عمّان خصوصًا، وفي الأردن. فأحببتُ كثيرًا أن أقدّم هذا النوع من الفن، يبدأ ولو يتأسّس من الصِّفر، ويكون للأجيال القادمة؛ لأنه مهمٌّ في أيِّ مجتمعٍ عالمي، كما هو موجودٌ لمجتمعاتٍ أخرى، سواء كانت أوروبيةً غربيةً أو عربية. مهمٌّ أيضًا تواجده في الأردن لكي ينمو الفكرُ الثقافي أكثر، الفكرُ المسرحي، ولتصبح حتى معاملةُ الناس مع بعضهم فيها حِسٌّ فنّيٌّ أكثر.
زاهي وهبي: ما رأيكِ =في مَن يقول إنّ الأوبرا فنٌّ صعبٌ أوّلاً، أو نُخبويّ، وغريبٌ عن الذائِقة العربية أو عن "الجوّ" العربي؟
زينة برهوم: أقول لهم: لا. لأنّه فعليًّا بدأت فكرةُ الغناء أو تقنيّةُ الغناء بلا ميكروفون وبلا مُكبّراتٍ صوتية، أو "مُقوّياتٍ صوتية". أنا لماذا أقول "مُقوّيات"؟ لأنّه أحيانًا في فنّ الأوبرا قد يحتاج الواحد إلى أن يدعم الصوت قليلًا بالتكنولوجيا الموجودة حاليًّا، لكن ليس دائمًا يكون بحاجةٍ إلى مُكبّر صوت. فعليًّا، عندما نرجع إلى العصور القديمة، إلى وقت زرياب والأندلس، بدأت الموسيقى من ذاك الوقت، من سنة 1100 تقريبًا، وتقنيّة الغناء، أو نقول الأداء المسرحي والغنائي بشكلٍ عام، من دون مُكبّراتٍ صوتية، موجودةٌ مع العرب، لا في الغرب فقط؛ لأنه كان المسرحُ بحاجةٍ إلى أن يُؤدَّى أو يُغنَّى، سواء كان شعرًا أو أيَّ نوعٍ من الفن، من دون ميكروفون. فتَنمو هذه التقنيّةُ مع التدريب المستمرّ لكي يُسمَع الصوتُ بشكلٍ واضح.
زاهي وهبي: على سيرة التدريب: ما الفارِق بالنسبة لحضرتكِ؟ أنتِ مؤلّفةٌ موسيقية، وتكتبين كلمات، وتغنّين أيضًا أوبرا وغير أوبرا، ولكن بشكلٍ أساسي مُغنية أوبرا. ما الفرق في التحضير بين أن نحضّر أغنيةً للأوبرا نغنّيها، أو نحضّر أغنيةً شعبية أو عاطفية أو أيّ نوعٍ آخر؟
زينة برهوم: طبعًا في كل الأحوال التدريب لا بدَّ منه، سواءٌ كنتُ أُحضّر نفسي لأغنيةٍ عربيةٍ شعبية أو لفنّ الأوبرا. ما تعلّمتُه من مُعلّمتي الإيطالية التي درستُ معها في روما، عندما درستُ فنّ الأوبرا، واسمه بالإيطالية "بيل كانتو" ومعناه الحرفي "الغناء الجميل"، أنّه يجب على الواحد أن يكون حاضرًا "مليون بالمئة" لكي يكون مئة بالمئة على المسرح. فالتدريب في كلّ الأحوال لا بدّ منه. تعلّمتُ ألّا أستعمل "الميوزك ستاند" وأنا أُغنّي؛ لكي أكون حافظةً الدور، أتقمّص الدور، أفهم الكلام. تعلّمتُ أن أقرأ الأغنية أو المقطوعة من الأوبرا كقصيدةِ شعر، لكي أفهم الكلام وأُمثّل الكلام قبل أن أغنّيه؛ لكي يخرج من القلب فيصل إلى الجمهور، يصل إلى صميم القلب، لا أن يكون مجرّد غناءٍ أو أداء. يجب أن أفكّر في أن أوصِل المعنى: معنى الكلام مع الغناء، بالطريقة الصحيحة للجمهور.
زاهي وهبي: حلو الذي تقولينه؛ يعني مغنّي الأوبرا أو فنّان الأوبرا هو مُغنٍّ وممثّلٌ في الوقت نفسه. قبل أن أستطرد بالأسئلة وبالحوار، هل نستطيع أن نرى كيف تتقمّصين الدور عندما تُغنّين؟
زينة برهوم: أكيد، لو سمحت. أحبّ أن أبدأ أوّل شيء بأغنيةٍ لفيروز، وأهديها لأهلنا في فلسطين وأهلنا في غزّة.
زاهي وهبي: تفضّلي.
زينة برهوم (غناء):
سنرجعُ يومًا
سنرجعُ يومًا إلى حيّنا
ونورِقُ في دافئاتِ المُنى
سنرجعُ مهما يمرُّ الزمانُ
وتنأى المسافاتُ ما بيننا
فيا قلبُ مهلًا ولا تَرتمِ
على دربِ عودتنا مُرهقًا
فيا قلبُ مهلًا ولا تَرتمِ
على دربِ عودتنا مُنهكًا
يَعِزُّ علينا غدًا أن تعود
رُفوفُ الطيورِ ونحنُ هنا
زاهي وهبي: ألف شكر، زينة برهوم. كيف تعتقدين أنّه من خلال الفنّ عمومًا، ومن خلال الغناء الأوبرالي خصوصًا، يمكن أن تكوني تخدمين قضيّةَ وطنكِ، قضيةَ فلسطين، قضيةَ الشعب الفلسطيني اليوم الذي يتعرّض لجريمةِ إبادةٍ غير مسبوقة في التاريخ الحديث؟
زينة برهوم: صحيح. للأسف، كلّ يومٍ يمرّ نبقى نشاهد الأخبار ونرى فيديوهاتٍ يصعب على العقل استيعابها، وهي إبادةٌ جماعية، للأسف، لم تمرّ علينا نحن كجيلٍ نعيشه ونشاهده. لأنّ العصور التي حدثت فيها، لنقل، جرائمُ ومجازرُ حربية وغير حربية، لم تكن موجودةً على حسابات التواصُل الاجتماعي، ولا كانت موجودةً على التلفزيون بهذه الصورة؛ لم يكن هناك هذا الحضور المتواصل للأخبار بشكلٍ مستمرّ. فمن الصعب جدًّا أن نشاهد هذا كلَّ يوم.
المهمّ إيصالُ الرسالة ليس لنا نحن فقط؛ نحن نعرف الرسالة ما هي، ونشاهد الأخبار كلَّ يوم كعرب، لكن الغرب لا تصله رسالةٌ صحيحة؛ لأنّ هناك، للأسف، دائمًا نفس طريقة الأخبار التي تُعرَض: تغطيةٌ معيّنة، و"حياد" هو تزوير، وليس فقط "تغطية مُحايدة".
زاهي وهبي: كيف يمكن للفنّ أن يُوصِل هذه الرسالة؟
زينة برهوم: يُوصِلها من خلال الكلمة، سواء كانت قصيدة، حضرتك شاعر، وتعرف إلى أيِّ حدٍّ مهمّة الكلمة أن تصل إلى الجمهور بشكلٍ عام وتؤثّر فيه كثيرًا، أو من خلال الأغنية التي فيها الكلامُ المؤثّر الذي يُوصِل الرسالةَ الصحيحة، التي تسرد القصّة الصحيحة، القصّة التاريخية طبعًا التي تحدُث حاليًّا؛ لأنّ التاريخ يعيد نفسه، لكن الآن يعيد نفسه بطريقةٍ أبشع وأشنع من قبل. فمن خلال الفنّ، أو أقول: من خلال فنّي، سواء كان أوبرا أو أغنيةً عربية غنّاها أحدٌ آخر من قبل، مثل سيّدتنا فيروز مثلًا التي غنّت لفلسطين، أركّز كثيرًا على أن يكون المحتوى هو المحتوى الصحيح، سواء كان أوبرا بلغةٍ أجنبية أو بالعربية.
زاهي وهبي: أصلًا، كما هو معروف، الفنّ الراقي والمحترم، مثل الذي تقدّمينه، يقدّم صورةً جميلةً عن الشعب والبلد الذي تنتمين له، والقضية الفلسطينية ليست صِراعًا عسكريًّا فقط؛ هي أيضًا صراعٌ ثقافي مع هذا المُحتلّ. فالفنّ مهمٌّ جدًّا. وقد غنّيتِ إلى جانب كبارٍ من مغنّي الأوبرا في العالم، مثل أندريا بوتشيلي، مثل روبرتو ألانيّا. ماذا تعلّمتِ من هذه التجربة؟ ماذا أضافت لكِ؟
زينة برهوم: كلُّ تجربةٍ لها خصوصيّتها الجميلة، أستطيع أن أقول. أندريا بوتشيلي كان دائمًا حلمي أن أغنّي معه. كنتُ دائمًا أغنّي مقطوعةً من مقطوعاته، إسمها "كون تِه بارتيرو"، وبالإنجكيزية اشتهرت "Time to Say Goodbye". جاءت الفرصةُ بالصدفة، وكثيرًا انبسطتُ عندما جاءتني الفرصة لأغنّي معه في لندن، وكانت ليلةً بين ليلتين كنتُ أؤدّي فيهما أيضًا دورًا مهمًّا جدًّا في الأوبرا، إسم العمل "حلاّق إشبيلية". ولو أنّه كان صعبًا جدًّا عليّ، وتحدّيًا كبيرًا، لكن الجميل دائمًا في الفن أنه مليءٌ بالتحدّيات.
زاهي وهبي: ما الصعب في الموضوع؟
زينة برهوم: الصعب كان الدور نفسه؛ دور الأوبرا الذي كنتُ أُؤدّيه في الليلتين، وفي الوسط بينهما حفل أندريا بوتشيلي. الأوبرا ثلاث ساعات، فكان يجب أن أسافر بعد الليلة الأولى من هذا الدور حين أدّيتُه؛ كنتُ أُغنّي إلى الثالثة صباحًا تقريبًا، ثم أصل إلى لندن في الصباح، ثم يكون الحفل في الليلة نفسها. فالوقت كان =ضيّقًا جدًّا، والتدريبات قليلةً جدًّا. لكن التجربة نفسها، من كثر ما كانت جميلة، ومن كونه حلمًا يتحقّق، جعلت كلَّ شيءٍ بالنسبة لي سهلاً؛ أيُّ تحدٍّ مرّ بسهولة، وكانت عندي طاقةٌ غير طبيعية، وكأنّه لا تعب. مع أنّه فعليًّا لم تكن عندي طاقة عندما وصلتُ إلى التدريب، ولكن فجأة جاءتني طاقةٌ ربّانية جعلتني أستطيع أن أغنّي مع أندريا بوتشيلي. وكان حفلًا ناجحًا جدًّا، والحمد لله.
روبرتو ألانيّا كان في مهرجان بيت الدين في لبنان، وكانت أيضًا صدفةً جميلة جدًّا. كنتُ أحضر التدريب للحفل الموسيقي له، وهو دعاني لأغنّي معه بعد أن عرّفتني عليه السيّدة نورة جنبلاط في التدريب، وكان لقاءً جميلًا. كلّ شيءٍ حدث بسرعةٍ، لكنه كان ناجحًا جدًّا، وتلقّى من الجمهور نجاحًا كبيرًا.
زاهي وهبي: بما أنّنا نتحدّث عن أسماء كبيرة في عالم الغناء الأوبرالي والأوبرا، تعتبرين ماريا كالاس رمزًا كبيرًا في هذا المجال. ماذا تمثّل لكِ ماريا كالاس؟
زينة برهوم: ماريا كالاس تُجسّد الصوت العميق المليء بالشَغَف والمشاعِر، الذي أشعر أنّه لأيِّ فنّان، ليس شرطًا أن يكون فنّان أوبرا، مهمٌّ جدًّا. كنتُ قبل قليل أتحدّث أنا وإيّاك في بداية الحلقة عن مدى أهميّة أن يفهم الإنسان معاني الكلام قبل أن يُغنّي، خصوصًا في الغناء. هي كانت تُوصِل المعنى الصحيح لأيّة مقطوعةٍ أوبراليةٍ كانت تؤدّيها، لأنها كانت تغنّيها بكلّ مشاعرها، من كلِّ قلبها. هذا الشيء شعرتُ أنّه علّمني كثيرًا، غير ما تعلّمتُه مع أساتذةٍ كبارٍ إيطاليين في فنّ الأوبرا. لكنها من الفنانين الكبار الذين أحبُّ أن أسمع لهم كثيرًا؛ لأنها مدرسةٌ بحدّ ذاتها.
زاهي وهبي: ماريا كالاس، وأنتِ تغنّين "أكابيللا" بهذا الصوت الجميل والإحساس العالي... هل نسمعكِ أوبرا، لو سمحتِ؟
زينة برهوم: المقطوعة إسمها "أو ميو بابّينو كارو"، ومعناها بالعربية "يا أبي العزيز". وأنا ترجمتُ أوّل المقطوعة إلى العربية باللّغة الفُصحى، فأحبّ أن أؤدّيها بالعربية وبالإيطالية.
زينة برهوم (غناء):
يا أبي العزيز، أرجوكَ زوّجني به
فأنا أحبّه جدًّا ولا أستطيع العيشَ من دونه
وإن لم توافقْ سأرمي نفسي في النهر[
]ثم بالإيطالية[
Oh mio babbino caro
Mi piace, è bello, bello
Voglio andare in Porta Rossa
A comperar l’anello
Sì, sì, ci voglio andare...
]المقطوعة كما أُدّيت[
]موسيقى[
زاهي وهبي: ألف ألف شكر، زينة. على سيرة "يا أبي العزيز": أنتِ وضعتِ عنوانًا لكتابٍ كتبه والدك، عبارة عن سيرةٍ أو مُذكّرات، وضعتِ له عنوان "المفتاح الذي لا يفنى". ما هو "المفتاح الذي لا يفنى"؟ والمفتاح واضحٌ إنّك علّقتِه في عُنقكِ. ما قصّتكِ أنتِ مع المفتاح؟
زينة برهوم: المفتاح قصّةٌ من العائلة. والدي من القدس؛ من القدس المُحتلّة بالضبط، من مواليد القدس، وإسمه محمد برهوم، أحبّ أن أوجّه له التحيّة.
زاهي وهبي: الله يُطيل عُمره.
زينة برهوم: تسلم يا رب ويُبقِي لك أهلك. القصّة بدأت عندما كانوا في البيت، بيت العائلة، سنة 1948. واضطرّوا أن يخرجوا من البيت. بعد سنةٍ من قضائهم وقتًا في بيتٍ آخر أُعطي لهم من قِبل جدّ أبي، عاشوا في كهفٍ ثلاثة أشهرٍ مع بقرةٍ؛ لكي يستطيعوا أن يعيشوا: من حليبها وكلّ القصص... مثل كثيرٍ من الفلسطينيين اضطرّوا أن يُهجَّروا ولم يعرفوا أين يذهبون.
كلّ فلسطيني بقي معه مفتاح بيته؛ ونحن جميعًا نعرف "مفتاح العودة" الذي كثيرٌ من الناس يلبسونه أو يحتفظون به، وهو رمزٌ مهمٌّ جدًّا لأهل فلسطين. المفتاح كان مُعلّقًا في عُنق عمّ أبي. كانوا ذاهبين، هو وأبي، وكان عُمر أبي ثماني سنوات، ليعودوا إلى البيت، لكي يفتحوا الباب ويأخذوا منه أغراضًا. جاء وقتها جنديٌّ إسرائيلي إلى عمّ أبي، وكان أبي مُختبئًا وراء صخرة. سأله: "أنت ماذا تفعل؟ هل تحاول أن تفتح الباب؟" قال له: "نعم، أريد أن أدخل إلى بيتي، أفتح وآخذ أغراضًا للعائلة". قال له: "لا تفتح الباب، أعطني المفتاح". فتشارعا . في النهاية قال له: "لن أعطيك المفتاح". قال له: "حسنًا، إذهب". لكن عندما مشى قليلاً، أطلق عليه الجنديُّ النار؛ أطلق عليه سبعةَ عشرَ طلقةً في ظهره أمام أبي. فهي من المواقف التي لا ينساها أبي في حياته؛ انحفرت في ذاكِرته وفي كوابيسه التي يحلمها كلَّ ليلة، وسبّبت له "تروما" كبيرة. أظنّ أنّ كلَّ فلسطيني يعيش تروما مختلفة من مشاهد رآها لم يكن يتوقّع أن يراها في حياته. والمآسي التي نراها نحن اليوم، كما قلنا قبل قليل عن أهل غزّة، لا تُوصَف، لا يُصدّقها عقل. ولا أعرف كيف، بعد كلّ ما مرّوا به، يمكن أن يُكملوا حياتهم مع كوابيس مختلفة من جميع الأنواع، كما كان أبي.
زاهي وهبي: للأسف، كثيرٌ من الناس حاولوا تصوير الأمر وكأنه بدأ في 7 أكتوبر، بينما هو بدأ قبل 75 سنة. وهذه المجازر التي نراها اليوم عاشها أجدادنا وأسلافنا وآباؤنا، سواء في فلسطين أو في لبنان أو في سوريا، حتى في مصر في فتراتٍ مثل مجزرة "بحر البقر" وغيرها. الكتاب أُطلق، أو سيُطلَق، في "متحف فلسطين" في اسكتلندا؟
زينة برهوم: في اسكتلندا، صحيح. مؤسّس المتحف هو فيصل صالح، وهو أيضًا أسّس متحفًا ثانيًا في الولايات المتحدة. والدي كان دبلوماسيًّا، وبعدها أصبح بروفيسورًا في الجامعة، مُتنقّلًا بين أميركا واليابان وجميع أنحاء العالم، يُدرّس. درّس عِلم الاجتماع وأيضًا عِلم النفس.
زاهي وهبي: تحدّثنا أنّ الفنّ يعبّر عن الفنّان، ويعبّر عن وطنه وبلده وشعبه، بالفنّ الراقي الذي يقدّمه. لكن من خلال الأوبرا، زينة، كيف تُجسّدين هويّتكِ العربية الأردنية الفلسطينية من خلال الأوبرا؟
زينة برهوم: دائمًا أحبّ أن أقدّم، في كلِّ حفلٍ موسيقي، طبعًا، في أدوار الأوبرا إذا دُعيتُ لأقدّم دورًا في أوبرا معيّنة، أكون مُجْبَرةً بهذا الدور؛ لأنك كما تعرف: إذا كان هناك دورٌ في أوبرا "كارمن" أو "لاترافياتا" أو ما كانت تكون الأوبرا، أو مثلًا أوبرا "عايدة"... هناك قصّةٌ مُعيّنة ومحتوى مُعيّن. لكنني كثيرًا أفرح عندما أقدّم حفلًا موسيقيًّا؛ لأني أستطيع أن أُجمِع بين الثقافات المختلفة التي بالنسبة لي، من خلال رسالتي الفنية، أحبّ أن أقدّمها، وهي بناءُ جسرٍ ثقافي بين الحضارات المختلفة والبلدان المختلفة.
أقدّم مقطوعاتٍ بلغاتٍ مختلفة، ومن خلالها أقدّم هويّتي العربية. أقول دائمًا: قبل كلِّ شيء، إذا نجرّد أنفسنا، فالإنسانية أهم شيء: قبل كلِّ شيء نحن إنسان، ثمّ نحن عرب، ثمّ نمثّل هويّاتنا، سواء كانت فلسطينيةً في الدم أو أردنيةً أو لبنانية... نظلّ كلّنا هويةً واحدة. وبحُكم أنني عشتُ حياتي كلّها في الأردن مع أهلي، فجنسيّتي أردنية، ودمي فلسطيني، وهويّتي تظلُّ دائمًا عربية. فأرفع الراية العربية، وأمشي في مقطوعاتٍ مختلفة من مصر، من الأردن، من فلسطين، من سوريا، لفنانين كنتُ أحبّ أن أسمع لهم طوال حياتي، أو من خلال مقطوعاتٍ أكتبُها وألحّنها بالعربية أو بلغاتٍ أخرى.
فمثلًا هناك مقطوعة جديدة كتبتُها، ليست جديدة جدًّا، لكنها صدرت العام الماضي، وهي "أوبرا البتراء"، وكتبتُها بالآرامية والعربية.
زاهي وهبي: صوّرتِها في البتراء؟
زينة برهوم: في البتراء، صحيح. وكتبتُ أيضًا...
زاهي وهبي: تفضّلي.
زينة برهوم: وكتبتُ مقطوعةً أحبّها جدًّا لوالدتي، وأشعر أنّ من المهمّ دائمًا أن يقدّم الفنّانُ شكرًا، من خلال فنّه، للناس الذين دعمُوه طوال حياته؛ سواء بمقطوعةٍ غنائيةٍ أو بكلمةٍ حلوة، لأنّه ما من فنّانٍ ظهر وحده، إلا وكان حوله دعمٌ كبير، خصوصًا من أهله وعائلته؛ لأنهم أكثر الناس محبّةً لمصلحته، وأكثر مَن يريدون الوقوف إلى جانبه. فأشكر كثيرًا أمّي أمل وأبي محمد على وقفتهما بجانبي طوال حياتي، وعلى دعمهما لي؛ لأنه من دونهما ما كنتُ لأكون هنا أصلًا.
زاهي وهبي: نحن نُمسّيهما بالخير طبعًا، ونحيّيهما على اعتنائهما بهذه الموهبة التي تجسّدينها. يجب أن نأخذ استراحةً سريعة. بعد الاستراحة، ممكن أن نسمع منك واحدةً من الأغنيتين اللتين ذكرتِهما، ونتحدّث قليلًا عن علاقة الأوبرا بالصوت العربي وبمخارج الحروف وبالقضايا التي تكون دائمًا محورَ نقاش مع أيِّ مغنّي أوبرا بالعربية.
استراحةٌ قليلة، ثم نُتابع "مسك الكلام" مع السوبرانو زينة برهوم.
المحور الثاني
زاهي وهبي: مشاهدينا، نتابع "مسك الكلام" مع السوبرانو الفلسطينية الأردنية زينة برهوم، مؤسِّسةِ أوّل مهرجانٍ للأوبرا في العالم العربي، وهو مهرجان عمّان للأوبرا.
زينة، كنّا نتحدّث قبل الاستراحة أنّكِ ستقدّمين واحدةً من الأغنيتين اللتين ذكرتِهما: إمّا "البتراء" أو "حكاية أمل". فتفضّلي.
زينة برهوم (غناء – حكاية أمل لوالدتها):
]موسيقى[
أنتِ أمَلي، أنتِ جوّ قلبي
كلُّ شيءٍ يَهون لي، وأنتِ دائمًا جنبي
أنتِ هيَ حياتي، كلُّ شيءٍ بقلبكِ يتحقّق
قلبُكِ الكبير...
]موسيقى[
زاهي وهبي: ألف شكر؛ فعلًا أداءٌ ساحِر دائمًا، زينة. لكن هناك دائمًا، في العالم العربي، آراءٌ مختلفةٌ ومُتناقضة حول الغناء الأوبرالي بالعربية، بمعنى أنّ مخارج الحروف وطريقة نُطق الأحرف العربية، البعض يرى أنّها لا تتناسب مع الغناء الأوبرالي.
زينة برهوم: هذا ممكن، نعم، لكن الأوبرا هي تقنيّةٌ غنائية، وليست محصورةً على اللغة ومخارج الحروف. مثلًا، هناك أوبرا بالصينية، وأوبرا بالروسية، وبالإيطالية، وبالآرامية، وبأكثر من لغة. فلماذا لا تكون بالعربية؟ صحيح أنّه يجب أن يكون الكلام واضحًا دائمًا. حتى عندما درستُ الأوبرا بالإيطالية تحديدًا، أحببتُ أن أتخصّص بالإيطالية لأنها المدرسة "الأوبرالية" التي تُسمّى فوق المدارس الأخرى في الموسيقى بشكلٍ عام، لأنّ التسميات =حتى الموسيقية بالإيطالية، ولأنّها أيضًا لغةٌ رومانسية تساعد كثيرًا على مخارج الحروف، وإلى آخره.
المغزى من هذا الكلام أنّه عندما كنتُ أدرس الأوبرا بالإيطالية كان هناك مُدرِّسٌ خاصٌّ فقط لمخارج الحروف بالإيطالية. هناك أيضًا مغنّو أوبرا يغنّون بالإيطالية ولا تفهم عليهم؛ فكان مهمًّا جدًّا أنّه عندما تُغنّي، أيًّا كانت اللغة التي تغنّي بها، تكون مخارجُ الحروف مضبوطةً على اللغة؛ لكي يفهم الناسُ ماذا تُغنّي.
زاهي وهبي: برأيك، هل يمكن لأيِّ مُغنٍّ عربي أن "يُطوِّع" صوتَه ويصبح قادرًا على الغناء أوبرا؟
زينة برهوم: حسب نوعية الصوت، بشكلٍ عامٍّ ممكن طبعًا، ليس غلطًا أبدًا؛ لأنها في النهاية تدريبٌ في مدرسةٍ مُعيّنة بتقنيّةٍ غنائيةٍ مُعيّنة. التدريب، مثلًا، على الغناء العربي القديم، أو أعطيك مثلًا: أسمهان أو ليلى مراد، أنا أسمّيه "العربي الكلاسيكي" في الموسيقى، تدريبه مختلف عن الموسيقى الـ"بوب" العربية الحالية، وعن "الميوزكل"، الفنّ الاستعراضي في أمريكا، ومختلف عن الأوبرا.
زاهي وهبي: يمكن أن يسأل أحدهم: لماذا نُغنّي أوبرا بالعربية؟ ما أهمّية هذا الموضوع؟
زينة برهوم: أقول مُجدّدًا: أهمّية الموضوع أنّ التدريب بالتقنيّة الغنائية للأوبرا يعرّض الصوتَ، أوّلًا، فيُكبِّره بطريقةٍ تجعلني من دون ميكروفون أستطيع أن أُسْمِع صوتي للجمهور، إذا كانت الصوتيّات في المسرح الذي أغنّي فيه قابلةً لأن تُخرج صوتي بالطريقة التي تدرّبتُ عليها.
زاهي وهبي: مَن ترين من المطربين العرب الكبار، سواء القُدامى أو الجُدُد، لديهم قابليّة، حتى لو لم يغنّوا أوبرا، لكن يمكن، من خلال سماعكِ، أن يَصلحوا للأداء الأوبرالي؟
زينة برهوم: وائل كفوري، لأنّ صوته قويّ، وأظنّه "تِنور" من حيث طبيعة الصوت، فأشعر أنّه إذا تدرّبَ على أن يغنّي أوبرا سيخرج صوته جميلًا جدًّا؛ عنده خامة صوتٍ حلوة جدًّا. أيضًا... طبعًا نعرف أنّ ماجدة الرومي كان لديها تدريب في الأوبرا أيضًا، فعندها تقنيّة في الغناء الأوبرالي تظهر عندما تغنّي بالعربية.
ما الأهمية؟ كما قلتُ: الأوبرا تدريبٌ معيّن للصوت، أظنّ أنه قد يطغى على أيِّ تدريبٍ آخر للغناء؛ لماذا؟ لأنه يعطي راحةً للمُغنّي؛ بحيث يَقدر أن يؤدّي أيَّة أغنيةٍ من دون أن يشعر أنّ صوته غير مسموع.
زاهي وهبي: لمَن تسمعين من الأصوات العربية؟
زينة برهوم: ماجدة الرومي أحبّها كثيرًا. أحبّ وائل كفوري. أحبّ أن أسمع لأسمهان وليلى مراد، من الغناء القديم عبد الحليم أيضًا؛ أحبّ أغنيته "أنا لكَ على طول"، مثلًا، من الأغاني التي أحبّها كثيرًا. أشعر أنّ كثيرًا من الموسيقى القديمة مستوحاةٌ من مقطوعاتٍ أوبرالية أو من موسيقى كلاسيكية قديمة. مثلًا "أنا لك على طول": عندما تسمعها، تشعر أنّها مقطوعةٌ من أوبرا "لابوِهيم"، مع الأوركسترا، ثم يدخل هو بصوته فتشعر أنّه بعد قليل سيُغنّي أوبرا.
زاهي وهبي: إذا طلبتُ منكِ أن تُسمعينا أغنيةً من أحد الأسماء التي ذكرتِها، ماذا تختارين؟
=زينة برهوم (غناء):
أنا قلبي دليلي قال لي حَتحِبِّي
أنا قلبي دليلي قال لي حَتحِبِّي
دايمًا يحكي لي وبصدّق قلبي
أنا قلبي... قلبي دليلي
زاهي وهبي: أنا قلبي دليلي، أوّل ما تعرّفتُ عليكِ في عمّان قلتُ لكِ: "لازم نعمل لقاء"، صحّ؟
زينة برهوم: صحيح، تذكّرتُ.
زاهي وهبي: لكن أنا آسف؛ اليوم صوتي قليلاً "تعبان".
زينة برهوم: سلامتك.
زاهي وهبي: بعد اللقاء تعلّمينني كيف يمكن للأوتار الصوتية أن يُريح الإنسانُ نفسه قليلًا، لو سمحتِ. من الأصوات العربية التي تُغنّي أوبرا: هل تسمعين مُغنّين أوبراليين يغنّون بالعربية؟ هل لديكِ فكرة عن التجارب العربية في الغناء الأوبرالي؟
زينة برهوم: نعم. هناك مغنّية أوبرا مصرية إسمها أميرة سليم، من الأوائل الذين بدأوا يغنّون فكرة الأوبرا بالعربية في العالم العربي. بدأت بما يُسمّى "Egyptian Mozart"، موزارت المصري، فترجمت مثلًا "Il Barbiere di Siviglia" و"Queen of the Night" (ملكة الليل) بالعربية، وغنّتها بطريقةٍ جديدة جدًّا؛ كان هناك رقصٌ مصري في الوقت نفسه وغناءٌ بالعربية في الأوبرات. كانت من التجارب الغريبة التي مرّت عليّ، لكنني أحببتها كثيرًا، وهي صوتُها أيضًا جميلٌ جدًّا.
هبة القواس من لبنان، تعرّفتُ عليها عندما كانت عندي منحةٌ في إنكلترا، عندما كنتُ في "جمعيّة إنكلترا للفنانين الصغار" للأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، عرّفوني عليها في لبنان. هي فنّانةٌ قديرة، ولبنانية، أوجّه لها تحيّة طبعًا.
زاهي وهبي: نحيّي هبة، ونحيّي أميرة. وأنا من حظّي أنني تعاونتُ أنا وهي؛ غنّت لي بالغناء الأوبرالي من قصائدي، أربعة أو خمسة نصوص، لا نصًّا واحدًا، وهذا أعتزّ به كثيرًا.
هل ترين، زينة، أنّ الغناء الأوبرالي العربي استطاع أن يفرض نفسه، أي استطاع أن يكون له حضور، لا أقول جماهيريًّا واسعًا، فهو في النهاية فنٌّ نخبويٌّ إلى حدٍّ ما، لكن في المهرجانات، في دور الأوبرا، في المسارح الكبيرة... هل أصبح هذا الفنّ بالعربية حاضرًا؟
زينة برهوم: في المهرجانات عالميًّا ليس حاضرًا كما يجب. هناك أكثر من شخص أحبّ أن أذكرهم: ملحّنٌ فلسطيني يعيش في فرنسا إسمه باتريك لاما، كتب أوبرا إسمها "أوبرا كنعان". يعاني كثيرًا ليعرضها، لكن تأتيه عروض من اليابان ومن أوسلو ومن أكثر من مكانٍ ليتمكّن من عرض هذا الفنّ. ليس سهلًا طبعًا؛ لأنّ اللغة جديدةٌ قليلًا على "عالم الأوبرا" بشكلٍ عام، لأنّ المُتعارَف عليه أكثر باللغات الأخرى، لا بالعربية.
زاهي وهبي: طبعًا إذا كان الموضوع فلسطينيًّا وكنعانيًّا، سيواجه صعوبةً من "اللوبيّات" الصهيونية والمؤيّدة لإسرائيل.
زينة برهوم: صحيح. أحبّ أيضًا أن أذكر مارون الراعي، لبناني، كتب أوبرا "لبنان". تعرّفتُ عليهم، فريق العمل كاملًا، في لبنان، وقدّموا "عن ترابلس" في أكثر من مكان، فوجد جمهورًا جميلًا جدًّا. وكتب أيضًا كتابًا عن قصّة مخارج الحروف التي أحببتُ أن أذكرها قبل قليل؛ كتب كتابًا خاصًّا بكيف يؤدّي فنّانُ الأوبرا الأوبرا بالعربية بمخارج حروفٍ صحيحة.
زاهي وهبي: زينة، في أغنية "Petra" أو "بترا" بالعربية، استعملتِ ثلاث لغات: الإنكليزية والعربية والآرامية. لماذا استخدمتِ ثلاث لغات في أغنيةٍ واحدة؟
زينة برهوم: أوّل شيء: أقدّم موسيقى فريدةً قليلًا من نوعها؛ بمعنى أنّني أستعمل تقنيّةً جديدة. أحببتُ أن أرجع بالزمن إلى الوراء؛ لأنّ حلمي الدائم كان أن أسافر عبر الزمن، لكن أظنّ أنّ هذا من سابع المستحيلات.
زاهي وهبي: وهذا ما جعلك تسمّين الحفل في البتراء "قصة حب عبر الزمن".
زينة برهوم: صحيح، وعلى سيرة "من سابع المُستحيلات": البتراء من عجائب الدنيا السبع، وهي من العجائب فعلاً؛ ليست جميلةً فقط، بل لها تاريخٌ لا يعرفه الناس كثيرًا، ليس مثل باقي عجائب الدنيا. فأحببتُ أن أُسلّط الضوء أكثر على البتراء.
زاهي وهبي: وعلى تاريخ هذه المنطقة والمدينة النْبطية.
زينة برهوم: هناك أيضًا منحوتة في التاريخ إسمها "الموسيقيّون الثلاثة الأنباط"، ومنها استوحيتُ فكرة الفيلم القصير الذي أنتجتُه، وهو الأغنية ذاتها التي مدّتها خمس دقائق، أغنية "Petra"، التي ألهمت فكرة أن أعمل أول أوبرا أردنية بعنوان "البتراء".
زاهي وهبي: عملتِ حفلةً، وعملتِ أغنية، وعملتِ فيلمًا صغيرًا، واستعنتِ بالذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي اليوم موضوعُ نقاشٍ حول أثره على الفنون، على الكتابة، على كلّ شيءٍ في حياتنا. لماذا استعنتِ بالذكاء الاصطناعي؟ للتسهيل فقط؟ وما رأيكِ بما يمكن أن يفعله في الموسيقى والغناء وفي كلّ هذه الإبداعات الإنسانية؟
زينة برهوم: هو سيفٌ ذو حدّين، كما نقول. توظيفُ الذكاء الاصطناعي في المكان الصحيح يمكن أن يُنْتِج نتيجةً إيجابية، ويكون له أيضًا عاملٌ كبير في تثقيف المجتمع تاريخيًّا وفنيًّا؛ مثل هذا الفيلم القصير بالنسبة لي، لأنّ فيه جانبًا تاريخيًّا كبيرًا؛ يسرد قصّةً خياليةً لكنها مُستوحاةٌ من التاريخ النبطي، ومبنيّةٌ على أشخاصٍ حقيقيين في التاريخ النبطي: الملكة شقيلا والملك حارثة، مثلًا. الأميرة "بترا"، الشخصية التي أؤدّيها في الفيلم، دورٌ خياليّ، ليست شخصيةً موجودة في التاريخ، لكن فكرة توظيف الذكاء الاصطناعي في المكان الصحيح هي أهمّ شيء.
هناك أشخاص وجهات استخدموا الذكاء الاصطناعي لإيذاء أشخاصٍ وجهاتٍ أخرى، وهذا ما لستُ مُتحمّسةً له في المستقبل؛ لأنني أشعر أنه يتطوّر في الاتجاه الخاطئ، للأسف. الفكرة عندي كانت أن أستعمله لوظيفةٍ معيّنة، وهي ثقافية وتاريخية وفنية، كما قلتُ قبل قليل. من ضمن هذا أيضًا: اللغة الآرامية؛ هي أساس، لنقل، اللغة الآرامية النبطية التي كانت تُستخدم تاريخيًّا في المملكة النبطية، وعاصمتها البتراء. اضطُررتُ طبعًا إلى إجراء بحوث مختلفة لأتعلّم الأرامية، لكي أُتقن اللفظ ومخارج الحروف، كما كنّا نتحدّث عن أهميّة مخارج الحروف في الغناء، سواء في الأوبرا أو غيرها.
زاهي وهبي: هو عمل يحتاج بحثًا وتحضيرًا وتدريبًا؛ ليس مسألةً بسيطة، ليست فقط ما نراه على المسرح أو على الشاشة. نريد أن نسمعكِ أيضًا، إن شئتِ، في أغنية "Petra" أظنّ.
زينة برهوم – غناء "بترا":
Ah...
I think that I have found you now
I don’t want to be no more
Beside you is where I belong
Together we’ll find a place of love forever
In this rose-stone of Petra...
(المقطع كما أُدِّي باللغات الثلاث)
(موسيقى)
زاهي وهبي: "لا تعليق"، كما يقولون؛ لأنّ أيَّ كلامٍ أمام هذا الصوت الجميل يكون أقلَّ من الإحساس الذي يصلنا.
إذا كان الذي يسمعكِ ينتشي بهذا الصوت وهذا الإحساس، فحضرتكِ عندما تُغنّين، ما الحال التي تعيشينها؟
زينة برهوم: حالُ حبٍّ دائمًا: حبّ الموسيقى، حبّ الحياة. كنّا نتحدّث قبل قليل عن مدى أهميّة وجود الفنّ والأوبرا في المجتمعات، في جميع أنحاء العالم؛ لأنّ قلبَ المجتمع النابض بالحياة هو قلبٌ نابضٌ بالفنّ وبالثقافة وبالمسرح، وإلى آخره. الحِسّ الفنّي يصعب أن يكون عند شخصٍ لا يكون حوله كلّ هذا الحبّ. وهذه هي الحال التي أعيشها في الأداء أغلب الوقت، وتؤدّي غالبًا إلى بكائي على المسرح؛ دمعتِي سهلةٌ قليلًا، لكن يكون الغناءُ خارجًا من قلبي ومن كلِّ مشاعري.
زاهي وهبي: اليوم لم نجعلك تبكين، والحمد لله. أتمنّى الشفاء العاجل لوالدك؛ أعرف أنّ لديه وضعًا صحّيًّا، لكن لم أحبّ أن أُطيل في هذا الأمر. أعرف أنّه من المدرسة اكتُشف صوتكِ، وأعرف إلى أيِّ حدٍّ دعَمَكِ أهلك.
سؤالي ما قبل الأخير: ما الذي جعلكِ تتّجهين إلى الغناء الأوبرالي، لا إلى نمطٍ آخر من الغناء؟ باختصار لو سمحتِ.
زينة برهوم: أكيد. بدأ المشوارُ من كورال المدرسة، وأنا في عُمر 12 سنة. باختصار شديد: مُدرّس =الموسيقى أخبر أهلي عندما سمع صوتي في الكورال؛ أخرجني من المجموعة وقال لي: "غنّي لي شيئًا"، فسمع صوتي وحدي. قال لأهلي: هذه البنت يجب أن تأخذ دروسَ موسيقى وصوت، لكي تنمّي الموهبة؛ لأنّ لديها مساحة غنائية كبيرة في صوتها، يمكن أن تصبح مغنّية أوبرا في المستقبل. استطاع أن يعرف أنّ عندي هذه القابلية في عُمر 12 سنة؛ كأنّ هذه الهويّة "لَزِقَتْني" وأنا صغيرة. لكن فعليًّا بدأتُ أغنّي عربيًّا و"بوب" وأشياء كثيرة، وسمعتُ الجاز وأنا صغيرة، ولعبتُ باليه أيضًا.
زاهي وهبي: وتصمّمين مجوهرات، وترسمين كذلك.
زينة برهوم: رسمتُ وأنا عُمري ثمان سنواتٍ، وأمّي شجّعتني؛ دخلتُ مسابقةً وربحتُ فيها الأولى على المملكة في الرسم. أظنّ أنّ الفنَّ بشكلٍ عامٍّ
زاهي وهبي: فيه تكامُل وتناغُم.
زينة برهوم: فنٌّ مرئيٌّ وسَمعيٌّ ومن جميع النواحي.
زاهي وهبي: الشعر؟
زينة برهوم: لم أجرّب أن أكتب شعرًا، لكن جرّبتُ أن أكتب.
زاهي وهبي: كقارئة؟
زينة برهوم: كقارئة أحبّ الشعر كثيرًا. الشعر موجود في كل شيء أغنّيه، سواء بالعربية أو الأجنبية، وبالذات الأوبرا، القصة في القصيدة قبل كل شيء.
زاهي وهبي: هي حكاية شعرية، نستطيع أن نقول.
زينة برهوم: بالظّبط، شعرية ورومانسية.
زاهي وهبي: يجب أن أسمع لكِ لاحقًا، في الكتب، بعض الإهداءات.
زينة برهوم: أكيد، شكرًا كثيرًا. وأنا مُتحمّسةٌ جدًّا أن أقرأها.
زاهي وهبي: وأنا مُتحمّسٌ أن أسمعكِ أيضًا مرّةً أخرى قبل أن نختم. لكن أريد أن أقول: إن شاء الله تحقّقين حلمكِ ويصبح هناك دار أوبرا في عمّان؛ أعرف أنّ هذا أحد أحلامكِ، وإن شاء الله يصبح هناك دار أوبرا في فلسطين أيضًا، وتتحرّر فلسطين من كلِّ هذه الطُغْمة المُحتلّة الغاشِمة التي ترتكب كلَّ هذه الفظاعات. أحملكِ تحيّاتٍ لأهلكِ ولمُحبّيكِ، ولعمّان، ولأهل عمّان أيضًا. شكرًا كثيرًا، نوّرتِنا وشرّفتِنا.
زينة برهوم: تسلم، بوجودكم.
زاهي وهبي: وقبل أن نختم بالغناء، يكون مسكُ الختام في "مسك الكلام" صوتك، إسمحْ لي أن أشكر فريق العمل ومشاهدينا أينما كانوا، ونترك لهم أن يستمتعوا بصوتكِ الحلو.
زينة برهوم: تسلم. وأهمّ من هذا أيضًا: تحيّةٌ كبيرةٌ جدًّا للشعب اللبناني، الله يقوّيه دائمًا في كلّ الصعوبات والكوارث التي مرّ بها؛ لم تكن قليلة. فحبٌّ كبير وتحيّةٌ كبيرة لكم.
زاهي وهبي: شكرًا.
زينة برهوم (غناء – ختام):
لمّا بدا يتثنّى
أمان أمان أمان أمان
حبّي جمالُه فتَنّا
أمان أمان أمان أمان
وعدي وحيرتي
(موسيقى)
وعدي وحيرتي
(موسيقى)
مَن لي أروحُ أَشكو له
إلّا مَلِكَ الجمال
إلّا مَلِكَ الجمال
إلّا مَلِكَ الجمال
(موسيقى)