"إسرائيل"ويهود أمريكا .. شرخ في قلب التحالف التاريخي وتحولات الهوية والسياسة

تعيش العلاقة بين "إسرائيل" ويهود أميركا اليوم واحدة من أكبر لحظات التحوّل منذ عقود. شرخٌ يتسع بين جيلين، وتراجع واضح في نفوذٍ شكّل لعشرات السنين ركناً أساسياً في صناعة قرار واشنطن. للمرة الأولى، تبدو الجالية اليهودية في الولايات المتحدة منقسمة بعمق حول إسرائيل: دورها، سياساتها، ومستقبل هذا التحالف الذي قام عليه الكثير من النفوذ السياسي والمالي والإعلامي. اللوبي يهتزّ… والأصوات الناقدة داخل الجالية ترتفع، فيما تعيش الإدارة الأميركية ارتباكاً في التعامل مع واقع جديد يتشكّل على مهل. وسط هذا المشهد، تُطرح الأسئلة الكبرى: هل يتحوّل مركز الثقل في التحالف الأميركي–الإسرائيلي؟ هل يقترب يهود أميركا من نهاية “العصر الذهبي” الذي عاشوه لعقود؟ وما أثر هذا التحوّل على سياسة واشنطن، وعلى "أمن إسرائيل"، وعلى موقعها في النظام الدولي؟

نص الحلقة

 

كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا. 

تعيش العلاقة بين إسرائيل ويهود أمريكا اليوم واحدة من أكبر لحظات التحوّل منذ تأسيس هذا التحالف قبل عقود: تحوّلات في الهوية، تغيّرات في السياسة، شَرْخٌ يتعمّق بين جيلين، وسباق داخل واشنطن نفسها تجاه نفوذ ظلّ ثابتاً لعشرات السنين.

نفوذ يتراجع، لوبي يهتزّ، وجالية يهودية تشهد للمرة الأولى انقساماً عميقاً بشأن إسرائيل ودورها ومستقبل علاقاتها بالولايات المتحدة.

وسط هذا المشهد تظهر أسئلة كبيرة: هل يتغيّر مركز الثِقل في التحالف الأمريكي الإسرائيلي؟ هل يدخل يهود أمريكا مرحلة نهاية العصر الذهبي؟ ماذا يعني ذلك لسياسة واشنطن ولأمن إسرائيل وللنظام الدولي كله؟

قبل أن نمضي في هذا النقاش، مشاهدينا، تبقى حقيقة يجب تثبيتها من بداية هذا البرنامج: إدانة مُعاداة السامية ليست خياراً سياسياً، إنما موقف إنساني وأخلاقي يرفض اتّهام أيّ شعب عبر التاريخ. المَحْرَقة (الهولوكوست) مأساة لا يجوز إنكارها ولا تبريرها. لكن هذا شيء، واستغلال إسرائيل لهذه الذاكِرة لتجريم أيّ نقد لسياساتها شيء آخر تماماً.

نَقْد الاحتلال ليس عداءً لليهود، إنما هو دفاع عن العدالة ذاتها.

إسرائيل ويهود أمريكا: شَرْخ في قلب التحالف التاريخي. تحوّلات الهوية والسياسة في "دوائر القرار".

أهلاً بكم.

 

كمال خلف: أرحّب بضيفي من لندن، البروفيسور حاييم بريشيت، الأكاديمي اليهودي. بروفيسور حاييم، حيّاك الله.

بروفيسور حاييم، مشاهدينا من عائلة يهودية، من أب وأمّ ناجيين من الهولوكوست، وأيضاً عمل أستاذاً في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية، وهو مؤلّف وباحِث في كُتب ومواضيع مثل تاريخ إسرائيل، ومثل القوّة العسكرية الإسرائيلية، وكذلك قضايا العدالة للشعب الفلسطيني.

أحيّيك، بروفيسور حاييم، في "دوائر القرار". سنكون معك في ثلاث دوائر، كل دائرة سوف تتناول زاوية من موضوع النقاش هذا اليوم.

وسأذهب إلى الدائرة الأولى، وعنوانها: "ما بعد غزّة ليس كما =قبلها: التحوّل في أمريكا يطرق أبواب اليهود".

بروفيسور حاييم، سأبدأ معك من سؤالٍ ورد في المقدّمة ليكون مدخلاً لهذه الحلقة: نحن أمام بداية نهاية العصر الذهبي للوبي اليهودي في الولايات المتحدة. هل تعتقد ذلك فعلاً؟

 

حاييم بريشيت: لست واثقاً إذا ما كنا نستطيع أن نعرف ذلك كنهايةٍ لهذه الحُقبة. دعونا ننظر إلى الحقائق: إن إسرائيل لم تكن قوية في واشنطن كقوّة تؤثّر على السياسات كما هي اليوم. إذاً، التغييرات التي تحدّثت عنها في المُقدّمة وهي تغييرات على صعيد المجتمع، ولكنها لم تطل الجهاز الذي يقوم بإملاء السياسات في واشنطن. إن ترامب مُحاط بالمليارديرات من اليهود، ويمكننا أن نذكر أسماء مثل ستيف ويتوكف، ولاري إليسون، وجارد كوشنر، ومليارديرات آخرين مثل أديلسون. وهو مُحاط باليهود المُناصرين للصهيونية، وأيضاً الذين يتمتّعون بأصولٍ من الموساد. وطبعاً، إلى جانب ذلك، هناك كثير من مُستشاريه الذين يعدّون يهوداً مُناصرين للصهيونية. إذاً، ليس هناك تغيير في هذا المستوى.

ولكن التغيير يحصل على الميدان وبين الشباب الأمريكيين اليهود الذين لم يعودوا يريدون أن يدعموا إسرائيل. وأعتقد أن هذا تطوّر جيّد، ينبغي أن نشعر بالسعادة إزاءه، لأنهم الآن ليسوا يدعمون إسرائيل كما كانت تفعل عائلاتهم بشكلٍ أعمى. لأنه الآن هناك خَلَل في النظام، والارتكابات التي تقوم بها إسرائيل، وخاصة الإبادة الجماعية في غزّة، وأعتقد أن هذا التحوّل هو تحوّل جيّد، لن يؤثّر بأيّ شكل من الأشكال على السياسة الأمريكية حتى.

 

كمال خلف: لدينا، بروفيسور حاييم، لدينا ربما نموذج الآن اليوم: بالتغريدة على "إكس"، لإبن نيكي هالي، السياسية الأمريكية المعروفة الداعِمة بشكلٍ مُطلق لإسرائيل، على "إكس"، إبن نيكي هالي يقول: ينتقد إسرائيل علانية. وأيضاً، في إسرائيل، أشهر المواقع في إسرائيل، موقع "واي نت" الإسرائيلي، ولكاتِب إسرائيلي مقال أيضاً قبل يومين يقول: عنوان المقال "لماذا يكرهنا الجيل الأمريكي الشاب في الولايات المتحدة الأمريكية؟"

في هذا المقال بالمناسبة بروفيسور حاييم، يقول كنا نعتقد أن الأمر يرتبط بحرب غزّة. حرب غزّة توقّفت، لكننا لن نرى توقّف هذا الانتقاد المستمر في الولايات المتحدة، خاصة من الجيل الشاب لإسرائيل ولسياستها.

كيف ترى هذا الأمر الآن من هذه الزوايا: ارتباطه بغزّة أو عدم ارتباطه بما جرى في غزّة؟

 

حاييم بريشيت: في الواقع، إنه مُرتبط بغزّة. قد بدأ قبل أحداث غزّة، لكنه شَهِد تحوّلاً كبيراً منذ السابع من أكتوبر. وأنتم أيضاً تتحدّثون عن نهاية الحرب. ليس هناك نهاية للحرب. ليس هناك وقف لإطلاق النار. أكثر من 1000 شخص قد قُتِلوا على أيدي الإسرائيليين منذ بداية ما يُسمّى نهاية الحرب.

إذاً، لم تتوقّف الحرب، ولم يتوقّف التجويع، ولم تتوقّف المجازر، وليس هناك أيّ بناء لملاجئ حقيقية للفلسطينيين. وليس فقط هذا، الآن عندما تبدأ الأمطار بالهطول ويكون هناك الكثير من السيول في غزّة، أصبح الفلسطينيون يواجهون وضعاً قاسياً وصعباً. بمُعزل عن الضربات والقنابل والقتل، هناك أيضاً تفشٍ للأمراض – أمراض ربما قد تطال الكثير من الشباب والكبار في السنّ – وهذا قد يحصل خلال أسبوعين قادمين. وطبعاً، لا أحد يتحدّث عن عدم وجود ما يكفي من مستشفيات، وما يكفي من مواد استشفائية، وما يكفي من طعام. 

 

كمال خلف: نعم معك حقّ بروفيسور، الحرب لم تتوقّف، القتل لم يتوقّف.

وأيضاً، سؤال ما بعد هذه المحرقة التي جرت في غزّة، هذه المجازر التي جرت في =غزّة: ماذا بعد؟

ولكن بروفيسور، إسمح لي أن أعرض أول تقرير في حلقة اليوم. وهذا التقرير، بروفيسور، سيحوي عناوين حاولنا أن نُسلّط الضوء على بعض ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً لدى الجالية اليهودية، يهود أمريكا هناك.

في هذه النُقاط التي سوف تَرِد في التقرير، سوف نسألك عن رأيك حولها. نتابع التقرير، ثم نعود؟؟

 

تقرير:

منذ ارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة في غزّة، وأمريكا تعيش تفاعُلاً سياسياً واجتماعياً غير مسبوق في علاقتها بإسرائيل.

فالجامعات الأمريكية التي كانت يوماً إحدى قِلاع النفوذ اليهودي، تحوّلت اليوم إلى ساحاتِ احتجاجٍ ترفع شعارات الإدانة وتتّهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزّة.

موجة غير مسبوقة امتدّت من هارفارد إلى كولومبيا، ومن ستانفورد إلى جامعة بنسلفانيا، حيث أصبح أيّ دعم لإسرائيل موضِع مُساءلة، وأيّ انتقاد لها يبدو وكأنه صرخة جيل جديد يكسر التابوهات القديمة.

وفي قلب هذه العاصفة، بات اليهود الأمريكيون يشعرون أن الاتّهامات بمُعاداة السامية لم تعد تَكْبَح خطاباً بدأ يكتسب شرعية سياسية وثقافية داخل أمريكا الجديدة.

على الضفة السياسية، يتعمّق الشَرْخ أكثر: الحزب الديمقراطي منقسم، تيّاره التقدّمي يرفع السقف ضدّ إسرائيل.

والبيت الأبيض بدأ يواجه أسماء صاعِدة، بينها عُمدة نيويورك المُنْتَخَب زهران ممداني، الذي أصبح ظاهرة سياسية تعبّر عن انتقال المزاج الشعبي.

أما اليمين الأمريكي الذي كان تاريخياً السند الأقرب لإسرائيل، فقد بدأ يُطلق اتّهامه هو الآخر. الإعلامي البارز تاكر كارلسون يتحدّث عن ضغط يهودي غير مقبول، ودونالد ترامب نفسه يقول بوضوح: "إن إسرائيل لم يكن لديها اللوبي القوي الذي عرفناه".

هذه ليست إشارات عابِرة، إنما مؤشّرات على تغيّر أعمق في البنية الاجتماعية والسياسية للولايات المتحدة.

فالديمغرافيا تتبدّل، وصوت الأقلّيات يتقدّم، ووجود جالية مسلمة ولاتينية أكبر وأكثر تأثيراً يُعيد توزيع مراكز النفوذ التقليدية التي اعتمدت إسرائيل عليها لعقودٍ طويلة.

إسرائيل تراقب المشهد بقلق. فالجبهة الأمريكية التي كانت أقوى ركائزها عالمياً، تهتزّ اليوم تحت ضغط مجتمع جديد وجيل مختلف وخطاب سياسي لا يشبه ما عرفته العقود الماضية.

هكذا يتحوّل حدث غزّة إلى زلزالٍ يُعيد تشكيل موقع إسرائيل ومستقبل اليهود داخل أهمّ دولة في العالم.

 

كمال خلف: بروفيسور حاييم، سأبدأ من الجامعات: لنُلقي نظرة على الجامعات، ومن مبدأ التفاعُل الذي جرى داخل الجسم الجامعي والأكاديمي في الولايات المتحدة الأمريكية. هناك صِراع – إذا جاز لي أن أقول ذلك – بين اتذهامات مُعاداة السامية وبين حرية التعبير. هناك جبهتان: مُعاداة السامية مقابل المُطالبة بحرية التعبير.

كيف ترى هذا التفاعُل داخل الجامعات ومآله؟ كيف سينتهي: لصالح مَن؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أنه من الواضح أن هذه التحرّكات التي حصلت منذ 18 شهراً في الولايات المتحدة، في جامعات الولايات المتحدة، قد انتهت. لأن جامعات كولومبيا وUCLA وليست فقط هذه الجامعات، بل حتى هارفارد وغيرها من الجامعات، تعرّضت لهجومٍ من قِبَل البيت الأبيض لسماحها للطلاب بفعل ما فعلوه. وبالتالي، إن هذه النهضة قد انتهت في الجامعات، وأصبح من الصعب على التلاميذ القيام بتحرّكات. وأن الطلاب لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك. وطبعاً أيضاً، الطلاب يواجهون الكثير من خَفْض التمويل من البيت الأبيض. هناك مئات ملايين الدولارات التي جرى قطعها عن كثير من الجامعات من أجل مُعاقبتها على ما سمحت بفعله.

الآن، هم يحاولون السيطرة بشكلٍ أشدّ على الطلاب، ولا يمكن للطلاب أن يقوموا بما كانوا يقومون به قبل عام.

وطبعاً، لا شكّ بأن الرأي العام هو أقلّ دعماً لإسرائيل مُقارنة بالسابق. وإن الرأي العام الأمريكي – مثلنا نحن – كان يشهد لمدة عامين الإبادة الجماعية في غزّة. وطبعاً، هذه المشاهِد كانت مُقزّزة. وإلى جانب ذلك، كانت مُقزّزة كيف أن السيّد ترامب قد طلب من الإدارة أن تجعل إسرائيل أولاً، بدلاً من أن تكون أمريكا أولاً. وهذا يؤدّي إلى تنامي مُعاداة السامية – ليس لأسباب تاريخية، مثل مُعاداة السامية تاريخياً، لأنها مبنية على أساس أكاذيب وأمور مُبْتَكَرة حول اليهود – ولكن بسبب التصرّف الذي تقوم به الدولة اليهودية إسرائيل ضدّ المسلمين وضدّ العرب وضدّ سائر الطوائف.

وهذا لا يحصل فقط في غزّة وفي فلسطين، بل يحدث في كل منطقة الشرق الأوسط، وغرب إفريقيا، وغرب آسيا. إذاً، هناك عدد من الدول حيث إن الولايات المتحدة وإسرائيل تتّحدان من أجل تدميرها وتدمير المقاومة ضدّ إسرائيل. وهذا يؤثّر على المسلمين وغير المسلمين في الولايات المتحدة. هم لا يحبّون مثل هذا النمط، وهم لا يعتبرون أن ذلك يساعد الولايات المتحدة. وأنا أعتقد أنه لا يساعدها بأية طريقة.

 

كمال خلف: بروفيسور حاييم، ما نشهده في الولايات المتحدة الأمريكية من تعاطُف داخل الجامعات، بدأنا نرى أنه ينتشر ليس فقط داخل الجامعات إلى الشارع، إلى بعض المؤسّسات، إلى الكونغرس، يظهر في التصويت – كما سنتحدّث بعد قليل – عن صعود زهران ممداني.

لكن هل تعتبر، بروفيسور، أن ما يجري هو لحظة تعاطُف عابرة بسبب المشاهد التي نُقِلَت لكل العالم عن قتل الأطفال بهذه الطريقة الوحشية في غزّة؟ أم أننا أمام تحوّل جذري، بطيء ولكنه عميق؟ أي أننا لسنا أمام لحظة عابِرة، لحظة عاطفية، إنما تتفاعل مع الحدث، إنما مع لحظة تحوّل جذري.

كيف ترى هذه المسألة أيضاً؟

 

حاييم بريشيت: أنا في الواقع أميل نحو نظرية أنه هذا تغيّر في الرأي العام، ولكنه ليس ممثّلاً حتى الآن بتصرّفات الحكومة. ولا أعتقد في المستقبل القريب أن ذلك سوف يحصل. وطبعاً، في الواقع، ما يسمّى بالتصويت على السلام الذي وضعته إسرائيل والولايات المتحدة وقدّمته إلى مجلس الأمن، وهذا التصويت في الواقع كان يتمحور حول إزالة أية قدرة من الفلسطينيين ليكونوا في مواقع السلطة.

إذاً، أعتقد أن هناك تنامياً لهذا الشِقاق في الولايات المتحدة بين عامة الشعب الذين يشاهدون مدى الضَرَر الذي لَحِق بالولايات المتحدة نتيجة لسياساتها، وبين الحكومة من جهةٍ أخرى، والتي تزيد من دعمها لإسرائيل بمُعزل عما تقوم به.

إذاً، نحن نشهد تحوّلاً جيّداً ومُثيراً لم نشهده في حياتنا. وطبعاً، الرأي العام أعتقد أنه يتغيّر تجاه السياسات التي ينتهجها ترامب تجاه إسرائيل، وليس فقط سياسات ترامب، بل حتى الحزب الديمقراطي وبايدن. وحتى اليوم، ما زال هناك دعم لإسرائيل لمرحلة لا يمكن للرأي العام فَهْمَها.

إذاً، هناك شِقاق ليس فقط ما بين الكبار والصغار من حيث الأجيال، بل أيضاً بين عامة الشعب والحكومة في الولايات المتحدة. ومن الصعب أن نعلم إلى أين تتّجه الأمور، لأن الرئيس ترامب قد بيّن أنه لا يريد أن ينصت لهذه الأصوات. ولكن ما الذي ينبغي القلق منه؟

هو أنه إذا ما استمرّ اليهود في الولايات المتحدة من خلال منظّماتهم بدعم إسرائيل، فإن موجة مُعاداة السامية سوف تتنامى بشكلٍ كبيرٍ وسوف تؤثّر على حياتهم. وفي الواقع، أنا أستغرب كيف أنهم لم يفهموا الوضع هذا حتى الآن، ولم يقوموا بوضع مسافة ما بينهم وبين إسرائيل فقط لتأمين هامش لحماية أنفسهم من غضب عامة الشعب. وأعتقد أن هذا تحوّل جديد، وينبغي أن نترقّب وننتظر ما الذي سوف يحدث للحكومة التي في الواقع هي مُنْسَلِخة حقيقة عن الشعور العام.

 

كمال خلف: بروفيسور، سأنتقل للدائرة الثانية، وعنوان الدائرة الثانية سيكون: "يهود أمريكا: نظرة في عُمق الهوية الاجتماعية والسياسية وتحوّلاتها؟"

 

سنبدأ هذه الدائرة، مشاهدينا، بعرض ما يمكن أن نناقشه مع البروفيسور حاييم في ما يتعلّق بالجالية اليهودية أو بيهود أمريكا، الأمور المُرتبطة بالتحوّلات الاجتماعية والثقافية. نتابع.

 

تقرير:

=عُمق التحوّلات الاجتماعية والثقافية ليهود أمريكا اليوم:

الزواج المُختلط، التحوّل الديمغرافي: أكثر من 70 في المئة من الزيجات الجديدة يجري خارج الديانة، وهو ما تعتبره المؤسّسات اليهودية أخطر تهديد لاستمرار الجماعة منذ القرن الماضي.

تراجُع التعليم الديني، وتفريغ المعابد من دورها. مدارس الأحد، حلقات التوراة، الشبكات الشبابية – كلها فقدت تأثيرها القديم. البنية التي كانت تّعيد إنتاج الهوية لم تعد تفعل ذلك.

جيل أمريكي يهودي لا يرى نفسه في إسرائيل. فجوة وجدانية حادّة: الشاب الأمريكي اليهودي يميل إلى العدالة الاجتماعية، الحقوق المدنية، مُناهضة الاستعمار، وهو ما يدفعه إلى رفض إسرائيل أو انتقادها على نحوٍ علني وغير مسبوق.

تقلّص الحضور اليهودي في النُخَب الصاعِدة: الجيل الجديد من الإداريين، الصحافيين، الأكاديميين، وكتّاب الرأي لم يعد يضمّ الثقل اليهودي التاريخي نفسه، ما يعني خسارة قاعدة تأثير طويلة المدى.

أصوات من داخل الجالية: "نواجه تهديداً وجودياً". قادة بارزون في المنظّمات اليهودية يحذّرون: "نخسر أبناءنا أكثر مما نخسر معارك السياسة".

أفول النموذج اليهودي الأمريكي الكلاسيكي: الشخصية التي جمعت بين النفوذ السياسي والارتباط العقائدي بإسرائيل والاندماج الكامل في المجتمع الأمريكي تتراجع، ويحلّ محلّها يهود أمريكا مُتحرّرون من الروابط التاريخية ومختلفون جذرياً عن جيل الحرب العالمية والسبعينات.

 

كمال خلف: بروفيسور حاييم، زيجات مُختلطة أكثر من 70 بالمئة تقول الإحصاءات داخل اليهود في الولايات المتحدة، تراجُع التعليم الديني، الشباب الأمريكي يميل للعدالة الاجتماعية ومُناهضة الاستعمار والحقوق المدنية، انتقاد اليهود في أمريكا لإسرائيل بشكلٍ علني.

كل هذا، ماذا يمكن أن نستنتج منه من تحوّلات؟ هل نحن أمام جيل مختلف تماماً ومُتحرّر تماماً من الروابط التاريخية؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن ما يحصل في الولايات المتحدة، وبشكلٍ أقلّ في دولٍ غربية أخرى، هو تطوّر جديد كلياً. وما يحصل عادة في الولايات المتحدة ينعكس ويتردّد صداه في أوروبا. وربما قد تكون هذه هي المرحلة الثانية. وذلك يعني أن دعم إسرائيل على المدى البعيد ليس مضموناً. فالولايات المتحدة هي المُزوّد الأساسي بالسلاح لإسرائيل، وليس فقط كذلك، بل إنها الداعِم الأساسي بالمال للاقتصاد الإسرائيلي. ومن دون تقديم هذه الأموال، فهناك أيضاً لوبي قوي في الولايات المتحدة وهو الذي يؤدّي إلى كل هذا الدعم.

وهو طبعاً هناك. في الواقع، الاقتصاد الأمريكي ما زال في حال تراجع، وأعتقد أنهم لن يستطيعوا أن يزوّدوا إسرائيل بما كانوا يزوّدوها فيه في السابق. وأيضاً، في الواقع، إن عامة الشعب لا يقبلون بمثل هذا الموضوع.

وبالنسبة إلى موضوع الزواج المُختلط الذي تحدّثت عنه، فهناك جزء كبير من المجتمعات الأمريكية يعاني – اليهود بحالٍ من العُزلة. ومن الجيّد أن هناك تطبيعاً للعلاقات ما بين اليهود في أمريكا وسائر الأمريكيين.

وفي الواقع، هذه المؤشّرات تطلب مزيداً من الوقت كي تطال الجسم السياسي في الولايات المتحدة. لا أدري كيف أحسب هذه التأثيرات، ولكنها سوف تتطلّب عدّة عقود كي يتمّ إحداث هذا التغيير في الأجيال المقبلة.

 

كمال خلف: لكن هنا، كيف تفسّر، سيّد حاييم، ما نشعر به من وجود – وكأن هناك – بدأ نوع من الفجوة الوجدانية؟ الفجوة الوجدانية بين جيل من اليهود أو شريحة من اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية. ما هو تفسير ذلك؟ إننا بدأنا نرى هذه الفجوة؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن هذه الفجوة ينبغي أن تحدث، لأن الدعم الذي قدّمته الولايات المتحدة لإسرائيل – الذي يتمّ من خلال اللوبي وعدد من المليارديرات الذين يقومون بمدّ السياسات في الولايات المتحدة بالمال – وهذا قد لا يحصل لوقتٍ طويل. وربما قد يحدث في فترة ولاية ترامب، وقد يستمر هذا الوضع.

ولكن الآن، بدأنا نشهد ضغوطات على الرئيس ترامب لتغيير هذه السياسات. واليمين في الولايات المتحدة يقوم بانتقاد ترامب ولا يقوم بدعمه عندما يقدّم كل هذا الدعم لإسرائيل.

إذاً، أصبحنا – لا أقول إن هناك تغييراً في السياسات – ولكن قد نشهد بعض المؤشّرات الأوّلية خلال سنة أو سنتين.

 

كمال خلف: قلت، سيّد حاييم، قلت بأن هذه التحوّلات اجتماعية، ثقافية، أكاديمية، لكنها لا تنفُذ إلى عُمق السلطة. قلت هذا.

لكن كيف تفسّر أن يحصل عُمدة نيويورك – المُرشّح الذي كان وأصبح الآن عُمدة نيويورك، زهران ممداني – على ثلث أصوات اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية؟

وكيف نفسّر أيضاً بأن العلاقة مع اليهود أصبحت محلّ جَدَل بين الديمقراطيين والجمهوريين؟ بدأ الجمهوريون يستخدمون الملف ضدّ الديمقراطيين، واليهود الليبراليين، مسألة دعم إسرائيل وغيرها.

ألا يمكن أن نعتبر بأن هذا بداية نفاذ إلى عُمق السلطة، إلى عُمق مفاصِل القرار في الولايات المتحدة؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن حملة ممداني هي تمثيل لهذا التغيير الذي نشهده. وطبعاً، إن ممداني لم يكن مدعوماً في بداية حملته من الحزب الديمقراطي. ولكن في نهاية الحملة، تقريباً لم يكن هناك أيّ دعم من قِبَل الديمقراطيين بسبب موقفه من غزّة، والذي يُعتبر موقفاً تقدّمياً.

إذاً، تتطلّب بعض الوقت. ولكن خلال عدّة أشهر من هذه الحملة الانتخابية، هؤلاء الديمقراطيون – من بينهم أوباما – قاموا بدعمه. لم يدعموه بشكلٍ كبير، ولكنهم لن يخوضوا الحرب ضدّه حتى النهاية.

إذاً، أجل، هناك تغيير. ما أقوله إن هناك تغيّراً في اليمين واليسار في ذات الاتجاه، وكلاهما يفهمان بشكلٍ واضحٍ أن أمريكا لا تستطيع أن تدعم إسرائيل بهذا الشكل.

وفي الواقع، هذا مهمّ. ما لا نشهده الآن في السياسات، ربما سوف يشكّل هاجِساً بالنسبة لترامب خلال فترة قريبة. ولا أدري حقيقة إذا ما كان سوف يغيّر شيئاً خلال السنوات الثلاث التي تتبقّى أمامه. ولكن ربما سوف يتمّ الضغط ويتمّ فرض تغيير وتليين موقفه تجاه إسرائيل.

لكن حتى الآن، لم نشهد هذا التغيير، ولا يمكنني أن أقول إن هذا التغيير سوف يحصل في سنة أو في سنتين.

 

كمال خلف: سننتظر لنرى كيف ستتمّ التحوّلات، بروفيسور.

لكن سأعرض أيضاً تقريراً – إذا سمحت لي – يتعلّق بالتحوّلات: كيف دخل اليهود إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبنوا هذا اللوبي وهذا التأثير في الولايات المتحدة الأمريكية، والآن كيف هو الوضع؟ نتابع؟

 

تقرير:

من شواطئ أوروبا الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر إلى بوابات إيليس آيلاند في نيويورك، بدأت أولى موجات اليهود إلى الولايات المتحدة هرباً من الاضطهاد وبحثاً عن حياةٍ جديدة.

وفي العقدين التاليين، كانت أمريكا تبني صناعاتها، وكان اليهود يبنون شبكاتهم: صحافة، نقابات، تجارة، تعليم. يتقدّمون بسرعةٍ مُذهلة نحو قلب الطبقة الوسطى الأمريكية.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، ومعها لحظة التحوّل الكبرى: اليهود الأمريكيون يتحوّلون من جاليةٍ مُهاجِرةٍ إلى أحد أعمدة الوعي السياسي الأمريكي. وتولد قناعة راسِخة داخل واشنطن: الوقوف مع إسرائيل ليس دعماً لحليف وحسب، بل استجابة لصدمة أخلاقية بعد الهولوكوست.

في الخمسينات والستينات، يتقدّم اليهود في الجامعات والقضاء والإعلام والمال، وتتشكّل النُخبة اليهودية الأمريكية التي ستقود لاحقاً أكبر لوبي سياسي مُنظّم في تاريخ الولايات المتحدة: "إيباك"، الذراع التي ربطت إسرائيل مباشرة بالمؤسّسة الأمريكية العميقة.

وفي السبعينات والثمانينات، كانت إسرائيل تتغيّر وأمريكا تتغيّر، لكن التحالف كان يزداد صلابة: يهود أمريكا خلف البيت الأبيض، وواشنطن خلف تل أبيب.

لكن ما بدا صُلباً طوال عقود، بدأ اليوم يتصدّع. جيل جديد من اليهود الأمريكيين لا يحمل ذاكِرة أوروبا، ولا يشعر بثقل الهولوكوست، ولا يرى إسرائيل كما رآها آباؤه.

المعابِد تخسر روّادها، الزواج المُختلط يتجاوز 70 في المئة، تعليم الهوية يتراجع، وصوت اليهود داخل الجامعات والنُخَب الجديدة لم يعد هو نفسه.

الأهمّ أن اليهود الأمريكيين أنفسهم ينقسمون اليوم حول إسرائيل: بين مَن يراها عبئاً سياسياً وأخلاقياً، ومَن يتمسّك بها كجزءٍ من هويّته.

هكذا، الجماعة التي بنت نفوذاً استثنائياً في القرن العشرين، تجد نفسها في القرن الحادي والعشرين أمام سؤال وجودي:

هل يبقى اليهودي الأمريكي كما عرفته السياسة الأمريكية، أم أننا أمام هويّة تتآكل ونفوذ يُعاد تشكيله؟

 

كمال خلف: بروفيسور حاييم، هل سنكون برأيك أمام جَدَل لدى يهود الولايات المتحدة الأمريكية بين أن تكون إسرائيل عبئاً سياسياً وأخلاقياً، وبين أن تكون جزءاً من الهويّة التي يجب التمسّك بها ودعمها؟

هل سنكون أمام مثل هذه الجدليّة لدى اليهود في الولايات المتحدة؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن هذا النقاش قد بدأ، وقد بدأ بالفعل في الولايات المتحدة، وقد بيّنت التقارير ذلك. إن إسرائيل هي مشكلة لكثيرٍ من اليهود، وطبعاً هي عبارة عن حِمْلٍ ثقيل. واليهود هؤلاء لا يوافقون على الطريقة التي تقوم إسرائيل بها بالتعامُل فيها مع مَن تستعمرهم، وهم لا يوافقون كلّياً على مبدأ الاستعمار.

إذاً، الشباب اليهود الآن – وباسم اليهودية – يقولون بكل وضوح: "هذا ليس ما نحن عليه. لسنا كذلك. ليس هذا ما نريده". وأيضاً، هم يفهمون الهولوكوست بطريقةٍ مختلفةٍ عن السيّد ترامب وعن آبائهم وأمّهاتهم. وفَهْمَهم للهولوكوست يبيّن أن هذا الأمر لا ينبغي أن يحصل لأيّ فريق آخر، ليس فقط اليهود، بل أيّ طرف آخر. هذا هو فَهْمهم للهولوكوست.

وهذا نوع جديد من اليهودية. وإذا ما أرادت اليهودية أن تتحرّر من الإسرائيليين، ينبغي أن تأخذ هذه الأمور بالاعتبار. لأن الصهاينة لم يحتلّوا فقط فلسطين، ولم يحتلّوا ولم يكونوا فقط القوى في واشنطن وباريس ولندن، وأيضاً استطاعوا أن يحتلّوا العقول، عقول اليهود في الولايات المتحدة.

وطبعاً، كان هناك تبديل ما بين اليهودية التقليدية والصهيونية. والآن يقول اليهود: نحن لا نريد الاستعمار، لا نريد الصهيونية، لا نريد الإبادة. اليهودية في الواقع ليست قائمة على الإبادة، وليست قائمة على ما تقوم به إسرائيل. فهذا مُعادٍ لليهودية. ما =تقوم به إسرائيل معادٍ لليهودية.

وأعتقد أن هذا تطوّر يؤثّر بشكل كبير. وأعتقد أن هذا تطوّر يؤثّر بشكلٍ كبيرٍ على اليهود في كل مكان، وقد يؤدّي إلى مزيدٍ من الرفض لليهودية بالشكل الذي تتمثل بالصهيونية. وطبعاً، قد يكون نوعاً من الاستعمار الحديث الذي لا يريدون أن يستمرّ. وأعتقد أن هذا هو التغيير الذي سوف يبقى.

 

كمال خلف: بروفيسور، هذا التغيير الذي سوف يستمر، سأتوقّف مع فاصل قصير جداً، ثم نذهب للدائرة الأخيرة في حلقة اليوم من "دوائر القرار". ابقوا معنا، مشاهدينا.

 

كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في "دوائر القرار". نتحدّث عن يهود أمريكا وإسرائيل والسياسات الإسرائيلية. أعود وأرحّب بالبروفيسور حاييم بريشيت، الأكاديمي اليهودي، يطلّ معنا من لندن. وسنذهب إلى الدائرة الأخيرة، مشاهدينا، وعنوانها: "مخاض اللحظة الراهنة: كيف يصنع المستقبل؟"

في هذه الدائرة، مشاهدينا، سنطرح أسئلة الساعة حول ملفّنا الذي طرحناه الليلة. وأيضاً، بروفيسور حاييم، هي أسئلة ستكون سريعة، الإجابات ستكون قصيرة كالمُعتاد من قِبَلك.

نطرح الأسئلة كلها في البداية، وبعد ذلك نُجيب سؤالاً سؤالاً حسب الوقت. لكن أرجو منك – أكرّر – أن تكون الإجابات قصيرة جداً، لأن الأسئلة ستكون سريعة.

سأعرض أولاً ما يُطْرَح في هذه الساعة، في هذه اللحظة، من أسئلة حول هذا الملف. سأبدأ بالسؤال الأول:

هل نحن أمام تحوّل بنيوي في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، أم أنها مجرّد أزمة عابرة؟

السؤال الثاني: ما العامِل الأكثر خطرًا على المدى الطويل: تغيّر السياسة أم تغيّر الديمغرافيا الأمريكية؟

السؤال الثالث: هل يدخل النفوذ اليهودي في واشنطن مرحلة ما بعد "إيباك"؟

السؤال الرابع: هل يصبح دعم إسرائيل في أمريكا قضية حزبية بالكامل خلال عقدٍ من الزمن؟

هل يفقد المشروع الصهيوني الشرعية الأخلاقية التي بنى عليها تحالفه مع الغرب؟

هل يملك يهود أمريكا اليوم القُدرة على إعادة ترميم نفوذهم، أم أن المسار أصبح خارج سيطرتهم؟

هل يمكن أن نشهد خلال سنوات أول انقسام سياسي داخل يهود أمريكا تجاه إسرائيل؟

إذا استمرّ تراجع التعاطف الشعبي، فهل تصبح إسرائيل عبئاً استراتيجياً على واشنطن؟ وهل يتغيّر تعريف الأمن القومي الأمريكي بحيث لا تكون إسرائيل جزءاً مركزياً منه؟

وأخيراً: هل تبدأ إسرائيل التفكير بنموذج تحالف مُتعدّد الأقطاب بديلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية فقط؟

هذه هي الأسئلة كلها، بروفيسور حاييم بريشيت. سأبدأ بها تِباعاً: سؤال وجواب بشكلٍ سريع.

نحن أمام تحوّل بنيوي في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، أم أنها مجرّد أزمة عابرة؟

 

حاييم بريشيت: لا أعتقد أنها أزمة عابرة. أعتقد أننا نشهد تحوّلاً بنيوياً، والذي قد بدأ للتوّ. في الواقع، إن إسرائيل لا يمكنها أن تبقى لأسبوعٍ واحدٍ من دون الدعم بالسلاح الذي تقدّمه الولايات المتحدة. وهذا ما شهدناه بعد السابع من أكتوبر. إذاً، ليس المال فقط ما يهمّ إسرائيل والتي تقوم أمريكا بمدّها به، بل إن المساعدات العسكرية الأمريكية تعتبر مهمّة بالنسبة إليها. هم بحاجة إلى القنابل والصواريخ، وإلى ما يمكن أن يزوّدوا الطائرات به.

 

كمال خلف: السؤال الثاني، بروفيسور: ما العامل الأكثر خطرًا على المدى الطويل: تغيّر السياسة أم تغيّر الديمغرافيا الأمريكية؟ أية موازنات بين الأقلّيات وداخل الجالية اليهودية نفسها؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن هناك تفكيرين في هذا الإطار. هناك تغيّر بين اليهود، وطبعاً هناك حال من مُعاداة "إيباك" التي أصبحنا نشهدها، لأن الشباب اليهودي يعارضونها، وكثير منهم أصبحوا مُعادين للصهيونية. وفي النهاية، يمكن أن يكون هناك تغيّر في السياسة الأمريكية الذي يمكن أن يدعم هذا الجيل. إذاً، هناك تغيّر في المجتمع اليهودي، وهو أيضاً مُتزامِن مع التغيّر في المجتمع الأمريكي بعيداً عن إسرائيل نحو مزيدٍ من العلاقات المتحرّرة.

 

كمال خلف: بروفيسور، هل يدخل النفوذ اليهودي في واشنطن في مرحلة ما بعد "إيباك"؟ هل دخلنا مرحلة ما بعد اللوبي اليهودي المُتحكّم؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أننا بدأنا نشهد ذلك. لا نشهد تغيّراً في السياسات، ولكننا نشهد تَضَعْضُع "إيباك". وهذا قد يُسفر عن تغيير بعيداً عن دعم إسرائيل بالصورة التي نشهدها منذ عدّة عقود. وهذا سوف ينتهي، وسوف يكون هناك انحدار وتراجع في الدعم الذي تقدّمه الولايات المتحدة لإسرائيل. ليس هناك شكّ بذلك.

 

كمال خلف: هل سيصبح دعم إسرائيل في أمريكا قضية حزبية خلال عقد قادم من الزمن، كما يتوقّع البعض؟

 

حاييم بريشيت: لا أعتقد كذلك. لأن كما ذكرت، التغيير يحصل في اليمين وفي معسكر اليسار أيضاً. وطبعاً، اليسار الآن ضدّ دعم إسرائيل بالصورة التي نشاهدها. وأيضاً، في حركة "ماغا" هناك تنامٍ لمُعارضة دعم ترامب لإسرائيل.

إذاً، "ماغا" لم تقم بدعم ترامب في كل ما يفعله، وهو سوف يستمرّ بفعل ما يقوم به. إذاً، أعتقد أنه لا نتحدّث هنا عن مجرّد مسألة حزبية، لأن كلا الحزبين سوف يقومان بخفض الدعم لإسرائيل.

 

كمال خلف: هل تتوقّع مستقبلاً أن يفقد المشروع الصهيوني الشرعية الأخلاقية التي بنى عليها تحالفه مع الغرب؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أنه قد فَقَدها بالفعل. ينبغي أن تراقبوا ما يحصل حول العالم، ليس فقط في الغرب، بل في كل مكان. ليست هناك أيّة مشروعية للبرنامج والمشروع الصهيوني. والآن أصبح الناس أكثر وعياً بأن السيطرة الاستعمارية التي تقوم إسرائيل بفرضها على فلسطين وسائر منطقة الشرق الأوسط هي محطّ معارضة بالنسبة إليهم. وليس هناك شكّ بأن هذا التراجُع يحصل كما يحصل الآن.

 

كمال خلف: هل ستُعاد عقارب الساعة إلى الوراء، بروفيسور؟ هل يمكن لليهود الأمريكيين القُدرة على ترميم نفوذهم مرة أخرى، أم أن الأمور خرجت عن السيطرة؟ المارِد خرج من القُمْقُم، التحوّل بدأ؟

 

حاييم بريشيت: أعتقد أن كثيراً من اليهود الشباب يريدون أن يكون لديهم سفير مختلف. والتأثير الذي يطمحون إليه هو وقف دعم إسرائيل، وتغيير سياسات الولايات المتحدة نحو سياسة أكثر ليبرالية وأقلّ استعمارية.

لذلك، أعتقد أن اليهود الآن ينضمّون إلى أقسام أخرى من المجتمع الأمريكي في المُطالبة بأمريكا مختلفة. وعلينا أن ننتظر إذا ما كان هذا سوف يحصل. آمل أن يحصل في وقتٍ ما. وطبعاً، في بعض الأحيان كانت "الدولة العميقة" تحاول أن تُنقذ نفسها، وتقوم بإنقاذ نفسها في المجتمع. وآمل أن نشهد هذا التغيير.

 

كمال خلف: هل يمكن أن نشهد خلال سنوات قليلة أول انقسام رسمي سياسي داخل يهود أمريكا تجاه إسرائيل في ما يتعلّق بإسرائيل؟

 

حاييم بريشيت: أجل، أعتقد أننا قد شهدنا ذلك بالفعل، وقد نشهد مزيداً منه. لأنه في ظلّ استمرار دعم ترامب لإسرائيل، فإن غضب وحُمْق الشباب اليهود وسائر الأمريكيين سوف يؤدّي في النهاية إلى تغيّر سياسي. وأنا أعتقد أن هذا ما سيحصل، وآمل أن يحصل.

 

كمال خلف: إذا استمرّ تراجع التعاطُف الشعبي، فهل ستصبح إسرائيل عبئاً استراتيجياً على واشنطن؟ هل تعتقد بأن الولايات المتحدة والنُخبة في أمريكا ستصل إلى هذه النقطة: العبء الاستراتيجي؟

 

حاييم بريشيت: في الواقع، إنها عبء استراتيجي. ليس هناك شكّ في ذلك. وقد أصبحت عبئاً استراتيجياً خلال العقد الماضي. وطبعاً، عامة الشعب يفهمون كيف أن إسرائيل تمثّل عبئاً من الناحية السياسية والاقتصادية والمالية والاستراتيجية. إذاً، تراجُع إسرائيل يحصل الآن، وليست هناك إمكانية لتبرير ما يجري.

وإلى جانب ذلك، هناك تراجُع لمكانة إسرائيل في الغرب. الموضوع يعتمد على قليلٍ من الوقت. ولكن الآن لا يفيد الفلسطينيين أن نأمل بالتغيير في المستقبل. نحن بحاجةٍ إلى تغييرٍ سريعٍ في غزّة. وفي الواقع، هذا التغيير يتطلّب مزيداً من الوقت، مع الأسف.

 

كمال خلف: هل تتوقّع أن يتغيّر تعريف الأمن القومي الأمريكي بحيث لا تكون إسرائيل جزءاً مركزياً منه؟

 

حاييم بريشيت: في اللحظة الراهنة، يبدو أنه لا يحصل. ولكن ربما في المستقبل سوف يتمّ ذلك. وإن إسرائيل تشكّل عبئاً على اتّخاذ القرارات بالنسبة للولايات المتحدة. ولا يمكن للأمريكيين أن يفكّروا حقيقة ما الذي يهمّ بالنسبة للولايات المتحدة، بل هم يفكّرون ما هو مهمّ بالنسبة لإسرائيل. وهذا أيضاً ينطبق على أوروبا. وهذه ليست وضعية سليمة في الواقع.

وطبعاً، إن أمريكا الآن لا يفيدها أن تقوم بالامتثال لما تريده السياسة الإسرائيلية. وإسرائيل تفقد تأثيرها على الولايات المتحدة.

لذلك، أعتقد أنه بالاستناد إلى كل التغييرات التي ذكرناها، قد تحصل هذه التغييرات تدريجاً، وسوف يكون هناك خَفْض وتراجُع للتأثير الإسرائيلي على معظم القرارات الأمريكية.

 

كمال خلف: نطرح عليك، سيّد حاييم، السؤال الأخير في هذه الدائرة وفي الحلقة أيضاً: هل برأيك إسرائيل تبدأ من الآن التفكير بتحالفات استراتيجية شبيهة بما قامت به مع الولايات المتحدة، أو تقوم به مع الولايات المتحدة – تحالف عضوي مع الولايات المتحدة؟

هل ستبحث عن شُركاء آخرين خارج الولايات المتحدة، من القوى الصاعِدة – ربما الصين، روسيا، لا أعرف – لكن هل ستفكّر إسرائيل بالبحث عن بديلٍ عن الولايات المتحدة الأمريكية؟

 

حاييم بريشيت: لا أعتقد أن هناك أية بدائل، أو أية بدائل مقدّمة لإسرائيل. إن إسرائيل هي قوّة استعمارية في حال انحدار وانحسار، وهي تتصرّف ضدّ منطقة الشرق الأوسط وضدّ الشعوب في منطقة الشرق الأوسط. وبعض دول منطقة الشرق الأوسط يقودها بعض الناس الذين يدعمون إسرائيل، ولكن الشعب لا يدعم إسرائيل.

ولذلك، لا أعتقد أن لدى إسرائيل الكثير من الخيارات، ومروحة خيارات واسعة كي تعزّز علاقاتها – مثلاً مع الصين ومع روسيا.

لذلك، أعتقد أنه في النهاية، عندما يتغيّر الوضع في الولايات المتحدة، لن تجد إسرائيل – بكل بساطة – مَن تقوم بالتحالف معه.

أعيد التأكيد على فكرة أن إسرائيل، خلال العقدين القادمين، سوف تشهد مزيداً من التراجُع، ومجتمعها سوف يتغيّر وسوف يتراجع. ولا أعتقد أنه سوف يكون لديها مستقبل على المدى البعيد.

 

كمال خلف: بروفيسور حاييم بريشيت، انتهت الحلقة. استمتعنا جداً بهذه الإجابات المركّزة والأفكار الرائعة والموزونة. أشكرك جزيل الشكر على هذه المشاركة معنا في "دوائر القرار".

بروفيسور حاييم بريشيت، الأكاديمي اليهودي، كنت معنا مباشرة من لندن.

مشاهدينا، "دوائر القرار" انتهى.