بين المشروعية والقوة: مضامين الاتفاق الأمني بين سوريا و"إسرائيل"
مفاوضاتٌ سرّيةٌ تجري بعيدًا عن العسكر، وتفتح الباب أمام تحوّلٍ كبير في مفاهيم الأمن والسيادة بالمنطقة. فهل يرسم الاتفاق خرائط جديدة لسوريا؟ وهل يفتح الباب أمام تدخلٍ إسرائيلي مباشر في شؤونها؟ وما أهداف "إسرائيل" الحقيقية: تطبيعٌ أم تثبيتُ هيمنة؟ وفي الداخل السوري، كيف يمكن لحكومة انتقالية بلا دستورٍ ولا برلمانٍ أن توقّع اتفاقًا بهذا الحجم؟ وهل يصمد أمام هشاشة الواقع؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا في دوائر القرار ونبحث بين القوّة والمشروعية مضامين الاتفاق الأمني بين سوريا وإسرائيل.
فيديو:
توم براك: الحوار بدأ بين سوريا وإسرائيل تماماً كما يجب أن يُعاد التذكير بالحوار من قبل لبنان. الكل يعمل الآن بوتيرة سريعة من دون القول إن ما حصل في 1967 أو 1974 أو اتفاق 1982. كل هذه الأمور لم تعد مهمّة.
أحمد الشرع: نحن نحاول أن ندخل في مفاوضات لتهدئة الأمور. إذا نجحت هذه التسوية وكان هناك التزام من قِبَل إسرائيل في ما تتّفق عليه، فربما يتطوّر هذا المشهد لنناقش مسائل أخرى تتعلّق بالجولان المحتلّ وتتعلّق في مستقبل العلاقة ما بين سوريا وإسرائيل على المدى البعيد.
بنيامين نتنياهو: سأخبركم ما الذي نناقشه. نحن نناقش مع سوريا أمراً لم يكن في الأحلام قبل انتصارنا الكبير على حزب الله. نحن نناقش معها ترتيباً أمنياً، السوريون ينزعون به السلاح من جنوب غرب سوريا، ونتولّى نحن أمن حلفائنا الدروز في جبل الدروز. هذا ما نتحدّث عنه، لكن إذا كان اليسار يسعى لاختراع شيء ما، فهو مدعوّ إلى فعل هذا.
كمال خلف: حديث عن اتفاق أمني غير مسبوق يفتح الباب أمام عودة رَسْم مفاهيم الأمن والسيادة في المنطقة. مفاوضات تجرى خلف الأبواب المغلقة بين سياسيين في دمشق وتل أبيب، بعيداً من الجنرالات والخبراء العسكريين، في خطوة تعني أنه يتجاوز كونه مجرّد تفاهم أمني تقني نحو عُمق السياسة والتحوّل في تاريخ الصراع.
الحديث عن هذا الاتفاق يطرح أسئلة مصيرية: ما هي مناطقه وحدوده؟ هل يُعيد رَسم الجغرافيا السورية؟ وهل يفتح الطريق أمام تدخّل إسرائيلي في الشأن الداخلي السوري؟ بالمقابل، ما أهداف إسرائيل الحقيقية؟ وهل يسعى الاتفاق إلى التطبيع أم إلى تعزيز السيطرة والأمن؟ ولا تقلّ أهمية التساؤلات عن الجانب الداخلي السوري؟
هل يمكن لحكومة انتقالية بلا دستور دائم، وبلا برلمان مُنْتَخب، وبغياب مشاركة سياسية واسعة أن توقّع اتفاقاً يمسّ مستقبل الأمّة السورية؟ وهل يمكن أن يصمد هذا الاتفاق أمام الواقع الداخلي الهشّ؟
في هذه الحلقة مشاهدينا من دوائر القرار نفتح الملف السوري الإسرائيلي ونناقشه من ثلاثة أبعاد هي المضامين والأهداف والمشروعية؟
أهلاً بكم.
كمال خلف: أرحّب بضيفي من باريس الذي سيكون معنا في الدوائر الثلاث للتعليق على المضامين والأهداف والمشروعية، أستاذ زيد العظم المحامي والناشط السياسي. أستاذ زيد، مساء الخير، حيّاك الله، أرحّب بك في دوائر القرار هذه الليلة، وسأبدأ معك بفتح الدائرة الأولى وعنوانها: مضمون الاتفاق والخرائط، كيف تنقسم الأرض؟
أستاذ زيد، بداية، قبل أن ندخل في المضامين والأهداف والوضع الداخلي في سوريا، لا بدّ من نقطتين نبدأ بهما هذا الحوار كمنهجية للحوار، وللموضوعية أيضاً للمتلقّين والمُستمعين. أولاً، شيء واقعي: ما يُنشر عن هذا الاتفاق، نحن الآن نناقش شيئاً لم يُعلن عنه بالتفاصيل، إنما سمعنا التصريحات السياسية حوله من كل الأطراف، وأيضاً ما نُشِر أو ما سُرّب، سواء خرائط سنعرضها هنا أو حتى المناطق وغيره، كل هذا كان تسريباً.
سؤالي أولاً: رأيك في ما نُشِر، واقعية ما نُشِر؟ هل هو الاتفاق يُسرّب؟ هل هو بالونات اختبار أم هي مجرّد تكهّنات غير واقعية؟
زيد العظم: مساء الخير مجدّداً، شكراً للاستضافة. دعني أنقل لك بعض الأجواء التي سمعنا عنها هنا في باريس، على اعتبار أنه عندما جاء وزير خارجية سلطة دمشق إلى باريس من أجل لقاء وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، واجتمع به في منزل السفير الأمريكي في باريس، طبعاً قبيل اللقاء كانت هناك إرشادات وتعليمات من قِبَل السفارة التركية الموجودة في فرنسا. لأنه أعتقد من وجهة نظري أن كل هذه المباحثات وهذه الاتفاقيات والتي أتت تحت عنوان وتحت يافطة "اتفاقية أمنية" بين سوريا وبين إسرائيل، أعتقد أن حقيقة الأمر هي التفاهمات والمفاوضات بين تركيا وبين إسرائيل. أنت عندما تتحدّث عن اتفاقية، تتحدّث عن طرفين مُتكافئين نوعاً ما أو متساويين نوعاً. اليوم، مع الأسف، الطرف السوري غير مُكافئ على الإطلاق للطرف الإسرائيلي، لا سيما إذا علمنا بأن إسرائيل قامت بتدمير ما تبقّى من السلاح السوري منذ الثامن من ديسمبر، منذ سقوط النظام البائد. إذا كانت في 14 سنة الماضية قد دمّرت قسماً كبيراً من منظومة السلاح الموجودة لدى الجيش السوري، وبعد 8 ديسمبر أجهزت على البقية، فعملياً لا يمكن أن تقبل أن هناك اتفاقية بين طرف عملياً منهار وبين طرف اليوم يقصف مدناً عربية، وحتى وصل قصفه إلى الخليج، وسط فقط تنديدات دولية واعتذارات.
لذلك نعود إلى صُلب الموضوع: من وجهة نظري، أن الاتفاق كان بين تركيا وبين إسرائيل.
لكن لغاية اللحظة يبدو لي أن هذا الاتفاق بين إسرائيل وبين تركيا لم يُنْجَز، وبصيغة أخرى، لم تتّفق بعد أنقرة مع تل أبيب: ما هي مناطق نفوذك وما هي مناطق نفوذي في سوريا؟ ولم ترضَ بعد تل أبيب أن تقوم تركيا بإعادة بناء الجيش السوري وإنشاء منصّات وقواعد عسكرية جديدة، لا سيما لا تزال ترفض.
كمال خلف: واضح أيضاً في موضوع الدقّة العلمية والموضوعية، قبل أيضاً أن ندخل في الأهداف والمضامين وغيرها، التسمية هنا أستاذ زيد، حضرتك أكاديمي، ويسمعنا الآن أكاديميون وسياسيون سابقون ولاحقون. هل نطلق عليه اتفاقاً أمنياً؟ نحن اليوم سنتحدّث في الخرائط وفي المسحات وفي المناطق وفي مناطق منزوعة وغير منزوعة. هذا مضمون أمني بطبيعة الحال، جغرافياً.
لكن ما نتابعه هو لقاءات سياسية على أعلى مستوى: لقاء وزير خارجية مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي. لا نرى ما رأيناه عبر التاريخ في اللقاءات الأمنية العسكرية: أن وفداً عسكرياً يذهب لمقابلة وفد عسكري تقني ويجري التفاوض حول الأمور التقنية والعسكرية. نحن نتحدّث فعلاً عن اتفاقٍ أمني أم نتحدّث عن اتفاقٍ سياسي؟
زيد العظم: عزيزي، نحن في هذا السياق لا نتحدّث لا عن اتفاقٍ أمني ولا عن اتفاقٍ سياسي. أنا من وجهة نظري نحن نتحدّث عن اتفاقية إذعان، لأن الطرف الإسرائيلي يريد أن يُملي شروطاً على الطرف السوري من دون أن يُقدّم الطرف الإسرائيلي أيى تنازلات حقيقية، أو بمعنى آخر من دون أن يحصل الطرف السوري على مكاسب حقيقية، لا مكاسب عسكرية ولا مكاسب سياسية.
ولكن دعني أنا وأنت نسأل سؤالاً مهمّاً جداً: مَن هو الذي دفع من أجل أن تحصل كل هذه اللقاءات وأن تُجرى ترتيبات عسى أن تصل إلى الاتفاقية؟ هو حقيقة، أنا أسميته المندوب السامي في سوريا توم باراك، وهو أخذ توجيهات من ترامب من أجل أن يُنْجِز اتفاقية سلام بين سوريا وإسرائيل، لأن ترامب لديه هاجِس، لديه حُلم بأنه يريد أن يوسّع صفقة الاتفاقيات الإبراهيمية وأن تنضمّ المملكة العربية السعودية. وهو ربما قد عَلِمَ هذا بشكل شفهي وصريح في زيارته للمملكة العربية السعودية في 7 أيار بأنه لا يمكن للسعودية، الرياض، أن تدخل في الاتفاقية الإبراهيمية قبل أن تدخل دول الطوق، وعلى رأسها سوريا ولبنان. طالما اليوم سوريا ولبنان هما خارج اتفاقية السلام والتطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية، فلا يمكن للمملكة العربية السعودية أن تدخل. دونالد ترامب، بعقليّة رجل الأعمال، بعقليّة رجل الصفقات، يريد أن يُنْجِز صفقة من دون حتى أن يدخل في تفاصيلها وتعقيداتها. هو فقط يريد أو يظنّ ربما أنه طالما اليوم السلطة في سوريا سلطة مازالت تحت العقوبات الأممية، وما زال رأس هذه السلطة - نتحدّث عن شخص أحمد الشرع - مازال إسمه خاضعاً للعقوبات في الأمم المتحدة.
كمال خلف: نستطيع أن ننتزع منه هذا الإنجاز. أستاذ زيد، إسمح لي أن أطلّ على الخرائط. أريد أن أشير فقط قبل أن أعْرض هذه الخرائط أو الخريطة هذه، أن هذه الخريطة هي مُحاكاة. نحن أنجزنا هذه الخريطة كمُحاكاة للخريطة التي نشرها معهد الحرب في واشنطن لمضمون الاتفاق الأمني المُقترح الإسرائيلي. كما ترون بالخريطة، يطرح تقسيم الجنوب السوري إلى نطاقات مُتعدّدة بقرارات حدودية وأمنية مختلفة: منطقة صفراء، زرقاء، حمراء، خضراء، مع قيود على وجود عسكري وسلاح جوّي في أجزاء واسعة من جنوب سوريا ومحيط دمشق.
سنشرح مشاهدينا على الخريطة، كما قلت، التي نشرها معهد الحرب في واشنطن: هذه هضبة الجولان السورية المحتلّة - الجولان السوري المحتلّ، تسمّيها إسرائيل هضبة الجولان - هذه منطقة محتلّة بالكامل. هنا هذه المنطقة التي توسّعت إليها إسرائيل، هذا جبل الشيخ، سيطرت عليه بالكامل، لا تريد الخروج منه.
المنطقة الزرقاء التي أُشير إليها هنا على الخريطة هي منطقة فضّ الاشتباك، طبعاً توسّعت عن اتفاقية الـ74 بشكل كبير. تقول تسريبات إن هنا يمكن أن تنتشر قوات دولية. المنطقة التالية، هذه المنطقة الحمراء، تقريباً هي منطقة منزوعة السلاح بالكامل، يمكن أن تتواجد فيها قوات شرطة فقط. امتدادها واسع جداً، يصل إلى هنا إلى مدينة صحنايا وإلى الصبّورة. مدينة صحنايا نتحدّث عن مدينة في ريف دمشق الغربي، على مقربة حوالى 20 كيلو متراً عن العاصمة، وإن كنت مُخطئاً، الأستاذ زيد يصحّح لي.
منطقة قريبة جداً من العاصمة دمشق، أيضاً الصبّورة على طريق دمشق الحدود اللبنانية. منطقة واسعة جداً تمتدّ إلى الحدود الأردنية، وأيضاً على أجزاء من محافظة درعا، مثل هنا مدينة جاسم.
المنطقة التالية، المنطقة الخضراء، هذه منطقة حَظْر طيران. هذه منطقة حَظْر طيران، ممنوع طيران حربي فيها. طبعاً البعض يقول ممنوع الطيران نهائياً، لكن التسريبات تقول ممنوع الطيران العسكري فيها. لكن منطقة واسعة جداً، أولاً تمتدّ قريبة جداً من دمشق. عندما نتحدّث مثلاً إنها تشمل منطقة الحجر الأسود وجرمانا، يعني نتحدّث عن دمشق، عن تخوم دمشق. إذا تحدّثنا عن الحجر الأسود، بعده مخيّم اليرموك، حيّ الزاهرة في دمشق، حيّ الزاهرة في دمشق، مخيّم اليرموك على تخوم دمشق. المنطقة تشمل أيضاً مدينة دمشق أو على تخوم دمشق.
وإذا اتّجهنا هنا باتجاه الشرق، منطقة محافظة السويداء بالكامل، أجزاء كبيرة من محافظة درعا، الحدود مع الأردن تقريباً إلى هذه المنطقة هنا، كلها منطقة محظورة الطيران على الطيران السوري.
المنطقة أيضاً تشمل مطار دمشق الدولي، منطقة حَظْر طيران هنا. سنسأل إذا كان مدنياً أو غير مدني، لكن هذا هي تقريباً التقسيمات التي نُشِرَت.
لكن ماذا يعني أن تصل منطقة حَظْر الطيران إلى هذه المنطقة هنا؟ عند هذه المنطقة أريد أن أعْرض خريطة أخرى. هذه المنطقة التي كنت أشير إليها تصل إلى هنا إلى هذه المنطقة، هذا مثلّث الحدود السورية العراقية الأردنية.
ماذا يوجد هنا؟ قاعدة التنف المعروفة بمنطقة الـ55. هذه المنطقة 55 كيلومتراً، ممنوع فيها الطيران أو الاقتراب العسكري. هذا يعني أن الخريطة التي عرضناها قبل قليل، حَظْر الطيران إلى ما بعد قاعدة التنف هنا بالقرب من البوكمال. بعده، ماذا يكون هنا بعد البوكمال؟ نهر الفرات، شرقه تماماً قواعد أمريكية، ممنوع أيضاً على الطيران السوري الحكومي أو على السلطة في سوريا أن تحلّق في هذه الأجواء.
نحن نتحدّث إذاً عن منطقة حَظْر طيران. صحيح ما عرضناه يتعلق بالجنوب السوري: درعا، محافظة درعا، السويداء، والقنيطرة، وريف دمشق الجنوبي الغربي. لكن أيضاً إذا نظرنا إلى الخريطة ككل، منطقة حظر الطيران أكبر بكثير، تشمل ما فوق قاعدة التنف 55، تشمل أيضاً شرق نهر الفرات بشكلٍ كامل. ربما أيضاً في ما =يتعلّق بالمطار والقواعد الروسية في الساحل السوري، قد تكون أيضاً منطقة حَظْر طيران. نحن نتحدّث عن أجواء ضيّقة جداً وغير مفتوحة، خاصة في المناطق الحدودية.
أستاذ زيد، تعليق؟
زيد العظم: أودّ أن أتوقّف عند نقطة مهمّة جداً، وهي بالخريطة التي استعرضتها حضرتك، نصّت حَظْر الطيران. أعتقد هي النقطة الأهمّ بالنسبة لإسرائيل، والأخطر بالنسبة لتركيا، طرفا النزاع الأساسيان اليوم في سوريا. لأن إسرائيل بهذه الجزئية - وجزئية مهمّة طبعاً - تريد عملياً أن تحمي في يومٍ من الأيام مشروع "ممر داوود" أو "كريدور داوود" الذي تريد إنشاءه، وهو ممرّ يربط بين المناطق بين السويداء وحتى تصل إلى قصد. عملياً، أنت تتحدّث عن مناطق شمال شرق سوريا، ما فوق البوكمال.
كمال خلف: هي منطقة حَظْر طيران بالمناسبة أيضاً.
زيد العظم: هي منطقة حَظْر طيران.
كمال خلف: تمرّ من التنف باتجاه البوكمال باتجاه شرق الفرات؟
زيد العظم: بالضبط. الإسرائيلي يريد من هذه الجزئية، كما قلت لك، أن يحمي ممرّ داوود. وممرّ داوود هو منطقة تمتدّ بشكل طولي مباشرة بين السويداء وحتى تصل إلى مناطق شمال شرق سوريا. بهذه العملية يكون وصل المناطق التي خارج اليوم عن سيطرة دمشق لتصبح عملياً منطقة جغرافية واحدة. وهذا أكثر ما يُخيف تركيا. وهذا الموضوع ليس جديداً، أنا بدأت أسمع بكوريدور داوود في منتصف عام 2022، وتحديداً نذكر وقتها صحيفة حريّت التركية كانت قد كتبت حول هذا الموضوع. اليوم مشروع إسرائيل هو كوريدور داوود. وقتها سنة 2022 وضعت محاذير وخطوطاً حمراء على بشّار الأسد أن لا يدخل إلى السويداء. وقتها بشّار فَهِمَ هذه المحاذير والخطوط الحمر ولم يدخل إلى السويداء. الآن سلطة دمشق في 15 تموز حاولت أن تكسر هذه المحاذير، لكن وقع المحظور، حصلت هناك مجازر، وكأن هناك كانت رغبة ما في أن تحصل هذه المجازر من أجل تعميق الكراهية بين المكوّنات السورية. ثم جاء الردّ قوياً بإخراج الفصائل السورية أو فصائل دمشق، بالإضافة إلى أنه تمّ حتى إخراج العشائر من منطقة السويداء.
لذلك من ضمن هذه الخرائط، النقطة الأهمّ هي منطقة الحَظْر الجوّي. النقطة الثانية هي نقطة جعل جنوب سوريا منطقة منزوعة عسكرياً حتى نصل لجنوب دمشق. وحضرتك تحدّثت عن صحنايا، هناك من سرق وقال إنها تصل لجنوب المزة. عملياً، منطقة الحَظْر العسكري تُلامِس العاصمة السورية دمشق.
كمال خلف: إذا تحدّثنا عن الحجر الأسود، نحن نتحدّث عن منطقة الميدان القريبة. نحن صرنا في قلب دمشق: الزاهرة، الميدان. حَظْر طيران إلى دمشق يصل. ولديّ نقطة قبل الانتقال إلى النقطة الثانية، ونحن نتحدّث عن المضامين.
هذا مضمون اتفاق، هذه خرائط، لم نسمع عن آليات حاكمة أو مرجعيات يعود إليها أحد الأطراف عند خَرْق الاتفاق. ماذا لو إسرائيل خرقت الاتفاق؟ ما هي الآليات وما هي الضمانات السورية لتنفيذ هذا الاتفاق رغم كل الملاحظات التي ذكرتها عليه، وإلزام إسرائيل به؟
زيد العظم: منذ عام 1948، متى التزمت إسرائيل بضمانة؟ نحن اليوم لدينا سنة 1980، قرار هو 497، قرار أممي وليس قراراً سياسياً، قرار أممي صادر من مجلس الأمن يقضي بسوريا الجولان. إسرائيل، هل التزمت به؟ إسرائيل لم تلتزم به يوماً. والأخطر من ذلك أن دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ضرب عرض الحائط شرعية الأمم المتحدة والشرعية الأممية واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
لذلك أنا أعتقد أن إسرائيل، ولا سيما بوجود اليمين الإسرائيلي الحاكم الآن والذي على رأسه نتنياهو، لا تسأل عن ضمانات، لأن كل الضمانات القانونية، وحتى لو أتيت لك بأكابر وكبار القانونيين الذين من الممكن أن يصيغوا أو أن يبرّروا الاتفاقية الأمنية المزعومة بين سوريا وإسرائيل، إسرائيل لن تلتزم بالضمانات أصلاً. أنا أعتقد وبشكل يكاد يكون يقيناً أن إسرائيل كل هذه الاتفاقية الأمنية لا تريدها، لكنها هي فقط سائرة ترامب مسايرة. كما قلت لك، ترامب يريد بالنهاية أن يوصِل المملكة العربية السعودية وأن يُدْخلها إلى مجموعة الاتفاقيات الإبراهيمية، لكن هذا الموضوع يمرّ عبر...
كمال خلف: عبر الترتيب مع دول الجوار. أستاذ زيد، أيضاً لديّ نقطتان قبل الانتقال إلى الدائرة الثانية، لأن المضامين مهمّة جداً. عندما ألقينا نظرة على الخريطة الآن، تحدّثنا عن مناطق قريبة من دمشق أو مُتاخِمة لدمشق. هل الاتفاق يجعل العاصمة دمشق بحُكم الساقطة عسكرياً بشكل دائم يصعب الدفاع عنها، وعندما تريد إسرائيل الدخول، لا شيء يستطيع أن يمنعها؟
زيد العظم: سوريا من 14 عاماً الماضية كانت بالنسبة لإسرائيل ساقِطة عسكرياً. موضوع لا يقف على الاتفاقية الأمنية. في 16 تموز الماضي، إسرائيل قصفت مبنى الأركان بمُنتهى الدقّة، وهذا يُعتبر استباحة حقيقية من قِبَل إسرائيل، وهي تعلم أنه لن يكون هناك ردّ. حتى التركي، إذا أراد أن يردّ على إسرائيل، فسيردّ ضمن مساحات ضيّقة ودقيقة جدّاً، ربما تكون في الجنوب السوري، ونحن لا نعلم حقيقة. ولكن نخمّن، إذا ما الكباش التركي الإسرائيلي تصاعد وازداد، كيف ستكون ردود فعل أنقرة؟ نعتقد ونخمّن بأن ردود فعل أنقرة ستكون فقط في القواعد الإسرائيلية الموجودة جنوب سوريا.
ولكن عملياً اليوم، سوريا كلها بحُكم الساقطة. للأسف، سوريا اليوم وليس حالياً، عملياً كانت من سنة 74 وحتى 2011 كان هناك اتفاقيات غير معلنة وشفهية بين نظام الأسد وبين إسرائيل، احفظ مكانك واحتفظ بمكاني. بعد الـ2011، بسبب الدخول الإيراني المباشر إلى سوريا، تحوّلت إسرائيل إلى الضرب المباشر.
لذلك يمكنني أن أقول لك منذ العام 2011 وإلى اليوم، للأسف، سوريا بحُكم الساقطة عسكرياً أمام إسرائيل. إسرائيل تستهدف بأية لحظة مَن تريد، وتستهدف النقطة الجغرافية والموقع الحكومي من دون أي حسيب أو رقيب.
كمال خلف: أستاذ زيد، أيضاً في المضمون وما سُرّب، وأنا لما قرأته استغربت فعلاً، لكن أيضاً من ضمن الأمور التي سُرّبت وهي:
أن سوريا تشترط في هذا الاتفاق اعتراف إسرائيل بالحكومة السورية الحالية. أنا لا أعرف، أنت حضرتك من آل العظم، لا أعرف الرئيس خالد العظم إذا سمع هذا الطلب من حكومة سورية، أو حتى فوزي العظم الذي أسّس الحكومة السورية وكان من مؤسّسي الحكومة السورية الأولى عام 1918. أول حكومة، أول حكومة عربية في كل هذه المنطقة كانت في دمشق 1918.
ماذا سيقولون، وسوريا تطلب وتشترط حتى أنه يجب إسرائيل أن تعترف بالحكومة السورية؟ بند غريب جداً، ولا أعرف سُرّب، لكن لا أعرف سبب أن يُطلب هذا الطلب من إسرائيل؟
زيد العظم: أجيبك بكل دقّة وكل أمانة. الانحراف ساد من 2015 و2016. بدأت بأوساط الثورة وأوساط المعارضة السورية تسود فكرة مهمّة جداً: أن إسرائيل هي التي تثبّت نظام الحُكم في دمشق. بمعنى أنه إذا كانت تل أبيب راضية عن نظام الحُكم الموجود في دمشق، فهذا النظام يمكن أن يبقى. وطالما نحن اليوم وسائل الإعلام وحتى توماس باراك وترامب يصفون الشرع بأنه براغماتي، فهذه ==البراغماتية لدى الشرع الآن تتوجّه نحو أنه إذا اعترفت بنا إسرائيل، فربما سنبقى في الحُكم وفي السلطة 10 و15 سنة.
لذلك نعم، أستطيع أن أقول لك بأن سلطة دمشق تبحث عن ضامنٍ، تبحث عن ورقةٍ تثبّتها في الحُكم. ما يعنيها الآن هو استمرار السلطة، ولا يعنيها نهائياً البناء، بناء الدولة. لأنه مَن كان يريد أن يبني الدولة لا يتصرّف بهذا الشكل. لا تُرْتَكب في عهده، وخلال أقل ّمن ثمانية أشهر، ارتكبت مجزرتين: مجزرة الساحل في آذار، ومجزرة السويداء في تموز.
لذلك نعم، هذه السلطة اليوم - مرة أخرى أقول - تبحث عن اعتراف. وهذا الاعتراف ثبت بالممارسة بأنه يأتي من واشنطن ومن تل أبيب. لذلك الآن ما يعني السلطة في دمشق هو أن تبقى في السلطة. كيف تبقى في السلطة؟ أن تحصل على اعترافٍ من واشنطن ومن تل أبيب.
كمال خلف: تماماً. سأنتقل إلى الدائرة الثانية. أطلنا قليلاً بالأولى، لكن كان المهمّ الحديث عن بعض المضامين. الدائرة الثانية، مشاهدينا، عنوانها: أهداف إسرائيل الفعلية، الأمن أم تفكيك السيادة السورية والتوسّع؟
في هذه الدائرة نطرح ورقة الأسئلة في ضوء الاطّلاع على مضامين الاتفاق التي تحدّثنا عنها. أهم الأسئلة في هذه الدائرة: ما أهداف إسرائيل الفعلية؟ هل المسألة مجرّد أمن حدود أم محاولة لصناعة واقع استراتيجي جديد يمكّن إسرائيل من التدخّل المباشر في الشأن الداخلي السوري؟
ما التبِعات على سيادة سوريا ووحدة أرضيها؟ هل يُسهّل الاتفاق على إسرائيل تنفيذ تقسيم سوريا؟ ما تأثيرات هذا الاتفاق على دول الجوار: لبنان، الأردن، العراق، تركيا؟ هل يجعل الاتفاق العاصمة دمشق بحُكم الساقِطة عسكرياً بشكلٍ مُستدام؟
هذه ورقة الأسئلة، وربما أجبنا على بعضها في الدائرة الأولى. لكن أستاذ زيد، سأختار بعض الأسئلة من أجل الوقت. أولاً: التبِعات على سيادة سوريا، وهل الاتفاق يؤمّن لإسرائيل تدخّلاً مباشراً في الشأن الداخلي، وفي التفاصيل الداخلية السورية؟ يفتح كوريدور إسرائيل مباشر على الوضع الداخلي السوري؟
زيد العظم: واضح. نتنياهو عندما يذهب ويرفع الخرائط دائماً في الأمم المتحدة ويقول إن هدف إسرائيل هو أن تكون قادرة على التدخّل المباشر واللحْظي والآنيّ في مناطق البؤَر الساخِنة. البؤَر الساخِنة بالتأكيد هي دول النزاع التي كانت طرفاً فاعلاً في يومٍ من الأيام كان إسمه الصراع العربي الإسلامي. أكيد في سوريا، في لبنان، في غزّة، بطبيعة الحال حتى في أجزاء من مصر. هذا ما يريده نتنياهو. وبالتالي هذه الاتفاقية الأمنية تُشَرْعِن - دعني أستخدم كلمة "شَرْعَنة" - لأن نتنياهو باتفاقيةٍ أمنيةٍ ومن دون =اتفاقية أمنية يضرب وينتهك سيادة الدول. رأينا نحن عندما قامت إسرائيل بضرب قطر، هذا أمر جديد.
كمال خلف: لكن الأخطر، أستاذ زيد، الأخطر أن تبدأ إسرائيل بناءً على هذا الاتفاق وهذا النفوذ داخل سوريا تحدّد للسوريين حكومتهم، تعترض على وزير، تعترض على محافظ، تُعيّن رئيس بلدية. البعض يقول قد تتطوّر الأمور إلى هذا الحدّ داخل سوريا؟
زيد العظم: بالنسبة للسلطة الحالية، أعتقد هي ممكن أن تكون لديها من البراغماتية الزائدة أو المُتطوّرة، هي تعلم بشكلٍ مُسْبَق أنه إذا كان هذا الوزير يمكن أن يشكّل خطرًا على إسرائيل، أساساً هي لن تُعيّنه نهائياً. بالنسبة للوقت الحالي، لا يهمّ إسرائيل الشأن السياسي. إسرائيل متجاوزة هذا الموضوع. إسرائيل ما يعنيها الآن ألا تكون سوريا مصدر تهديد لإسرائيل. وأيضاً هذه من التسريبات - دعني أقولها لك، لا أتحمّل مسؤوليّاتها إنْ كانت صحيحة أو غير صحيحة - بالعودة إلى المباحثات التي كانت تجرى في أذربيجان في مُنتصف العام الجاري، عملياً كانت المفاوضات بين التركي وبين الإسرائيلي. أن المُفوّض الإسرائيلي كان يقول للمُفوّض التركي: إنْ أردت الوصول لنقطة تسوية، دعنا نأخذ من "بلميرا"أو نأخذ من تدمر نقطة مركز في سوريا. وحتى المفوّض الإسرائيلي رَسَمَ خطًا شمال تدمر لتركيا، وجنوب تدمر لإسرائيل. نتحدّث عن مناطق السيطرة العسكرية. وبالتالي التركي رفض، والتركي لم يقبل، وبدأت كل هذه المُشاحنات والصِراعات تتبلور في الجنوب السوري ما بعد حزيران من هذا العام.
لذلك ما أودّ قوله اليوم: ما يعني إسرائيل بالجغرافيا السورية أن لا تكون سوريا مصدر تهديد لها. وعندما نقول مصدر تهديد لها، إسرائيل تُعايِن الموضوع بمنطق الهواجِس، وبمنطق حتى الوساوِس. بمعنى أن إسرائيل اليوم قد لا يكون لديها يقين في أن هذه المنطقة ستشكّل تهديداً لها، ولكن مجرّد أن تتسرّب إلى الرأس الإسرائيلي وساوِس بأن هذه المنطقة أو هذه القاعدة ستُشكّل خطرًا على إسرائيل، تقوم بضربها مباشرة. هذا الذي جرى من حوالى شهر عند افتتاح معرض دمشق الدولي. في لحظة الفرح والانبهار للسلطة السورية بافتتاح معرض دمشق الدولي، قامت إسرائيل بنسف قاعدة حديثة مُسْتَحْدَثة في الكسوة. هذه القاعدة لم يكن ظاهراً أن كانت موجّهة ضدّ إسرائيل أو أنها كانت قاعدة عادية، لكن الوساوِس الإسرائيلية صوَّرت الموضوع بأنه خطر وخطر استراتيجي على إسرائيل، وقامت بضربه من دون حسيب أو رقيب.
لذلك الموضوع: إسرائيل اليوم، ونتنياهو تحديداً، ليس بحاجة لا إلى اتفاقية أمنية ولا إلى أية أوراق قانونية. الذي يعني نتنياهو هو أن تبقى يده طويلة في كل الـ185000 كيلومتر في سوريا. أية نقطة يتصوّر نتنياهو أو يتخيّل أنها يمكن أن تهدّد إسرائيل، هو يريد ضربها.
كمال خلف: أستاذ زيد، سأتوقّف مع فاصل قصير، بعده نفتح الدائرة الثالثة من دوائر القرار. فاصل ونعود.
كمال خلف: تحيّة من جديد مشاهدينا في دوائر القرار، نستضيف فيه من باريس الأستاذ زيد العظم المحامي والناشِط السياسي، ووصلنا إلى الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقة اليوم: المشروعيّة والمستقبل، اتفاق مصيري بالزمن المؤقّت.
سنتابع مشاهدينا ومع ضيفي هذا التقرير الذي يتحدّث عن مضمون الدائرة وعنوانها، ثم نعود للضيف بمجموعةٍ من الأسئلة حول المستقبل. نتابع.
تقرير:
=الاتفاقات الأمنية في العُرف الدولي تُبْرَم بين العسكر والأمنيين، لا بين كبار الساسة، حيث تحدّد الخرائط والمناطق بميزان الحقوق والمصالح الميدانية، لا بالبيانات والدعاية الإعلامية.
غير أن ما سُرّب عن الاتفاق السوري الإسرائيلي يبدو أقرب إلى اتفاقٍ سياسي يُدار على مستوى عالٍ من قِبَل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني مباشرة مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون دارمار، على أن يوقّعه لاحقاً رئيس الدولة السورية نفسه، بحسب ما تقول التسريبات. وهذه المُفارَقة تُثير السؤال: هل هو اتفاق أمني تِقني أم تسوية سياسية تلبس رداء الأمن؟
بالتجربة التاريخية والمُعاصِرة، يثبت أن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقات إلا بقَدْر ما تنسجم مع ميزان القوّة. مزَّقت اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية، بينما تنتهك اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقّعت عليه مع لبنان.
أنور السادات: وستُدْهَش إسرائيل عندما تسمعني الآن أقول أمامكم إني مُسْتَعّد أن أذهب إلى بيتهم إلى الكنيست.
وتجاوزت نصوص كامب ديفيد مع مصر بفرض سيطرتها على محور فيلادلفيا والضغط لتهجير سكان غزّة نحو سيناء.
والآن تعلن نيّتها ضمّ الأغوار في تمزيق صريح لاتفاق وادي عربة مع الأردن. وتلك اتفاقات كلها برعايةٍ وضماناتٍ أمريكية.
أما في الشقّ السوري، فقد ضمّت حكومة نتنياهو الجولان السوري المُحتلّ بموافقةٍ أمريكيةٍ من دون أيّ اعتبار لقرارات الشرعية الدولية ومجلس الأمن. فأية ضمانات ستلتزم إسرائيل باتفاق مع الحكومة السورية المؤقّتة، والدولة السورية في وضع داخلي هشّ وغير مستقرّ؟ وإلى مَن تشتكى حبّة القمح إذا كان القاضي دجاجة؟
أحمد الشرع: فمهمّة المُنتصرين ثقيلة ومسؤولية عظيمة.
ثم إننا أمام مشهد شديد الالتباس: حكومة مؤقّتة من دون دستور دائم، ولا برلمان مُنْتَخَب، واتفاق مصيري مُرْتَقب من دون استفتاء شعبي ولا تعدّدية حزبية، مع سلطةٍ بلونٍ واحدٍ تُعلّق فيها الحياة السياسية.
فهل يجوز لمثل هذه السلطة أن توقّع اتفاقاً يمسّ مستقبل وطنٍ بأكمله؟ أليس من مُقتضى الشرعية أن تُسْتَفْتى الشعوب قبل أن يقرّر طرف واحد أو رجل واحد مصيرها؟
مواطِنة سورية: النظام الإسرائيلي هو آخر أحد على وجه الكرة الأرضية سيكون داعمًا للمدنيين السوريين أو داعمًا لحقوق الإنسان في سوريا أو للعدالة أو للاستقرار. جميعنا نعرف ما هي الحكومة الإسرائيلية وما الذي تقوم به في غزّة.
قالت العرب: "مَن استعجل الشيء قبل أوانه عُوقِب بحرمانه". وإذا كانت الحكومات المؤقّتة تستعجل شرعية لا تملكها، فإنها لا تورَّث الأوطان إلا مزيداً من الانقسام. فالاتفاقات المصيرية لا تقوم على فراغ الشرعية ولا على هشاشة الداخل، بل على عَقْدٍ اجتماعي راسِخ تستند إليه الدولة في مواجهة أعدائها.
هنا يطرح السؤال الجوهري: هل يُكْتَب لهذا الاتفاق أن يكون باباً للاستقرار والدعم والانتعاش الاقتصادي كما يأمل حُكّام دمشق الجُدُد، أم سيكون مجرّد اتفاق على ورق تتلاعب به إسرائيل حين تشاء ليصبح سابقة خطرة في تجاوز إرادة الشعب ومؤسّسات الدولة وإعادة هَنْدَسة المنطقة بإرادة الغالبة لا بموافقة المالِك للأرض والتاريخ؟
كمال خلف: أستاذ زيد، التقرير طرح كثيراً من النقاط والأسئلة. سأبدأ من المشروعية. السؤال =الذي يُطْرَح في هذه اللحظة: هل يحقّ لحكومةٍ مؤقّتة انتقالية أن توقّع من دون برلمان مُنْتَخَب، من دون دستور دائم، من دون عَقْد اجتماعي أيضاً أن توقّع اتفاقاً قد يكون مصيرياً بالنسبة للأمّة السورية؟
زيد العظم: قد يكون مصيرياً ليس فقط بالنسبة لسوريا، حتى قد يكون مصيرياً بالنسبة لدولٍ في الخليج العربي. بالتأكيد، الجواب القانوني: لا يحقّ للحكومة الانتقالية على الإطلاق أن تُبْرِم اتفاقات دولية استراتيجية. الاتفاقات الدولية التي يمكن للحكومة الانتقالية أن تُبْرِمها هي اتفاقات مدنية تتعلّق بخدمة المواطن السوري، وعقود توريد. إذا أرادت أن تورّد مواد أوّلية أو المواد الأساسية التي يستفيد منها الشعب السوري. أما اتفاقية مع إسرائيل - ولحدّ الآن بيننا وبينها حال حرب منذ عام 1967 - أعتقد منذ العام 1967، ولست متأكّداً إن كانت حال الحرب مُعْلَنة من العام 48 أو الـ67، ولكن في بين سوريا وإسرائيل اليوم حال حرب. أن تذهب سلطة مؤقّتة وضعت إعلاناً دستورياً لا يختلف في سلطويّته وتسلّطه عن دساتير حزب البعث، وهي الآن بصدد تشكيل مجلس شعب وليس مجلس شعب مُنْتَخَب، أنا أطلقت على مجلس الشعب المزعوم والمُرْتَقب "مجلس الشرع". أحمد الشرع قام بتسمية لجنة من أجل عملياً أن تسمّي 140 نائباً، وهو يقوم بتسمية 70 نائباً فقط، حتى يشرّعوا إنْ حصلت اتفاقية أمنية. وبقية الاتفاقات، هذا العمل قانونياً غير جائز، وهذا العمل باطل. موضوع السلام مع إسرائيل متروك إقراره لبرلمان سوري مُنْتَخب من قِبَل السوريين، وإلى حكومة مُنْتَخَبة من قِبَل السوريين.
كمال خلف: إطلاق الحياة السياسية أولاً، أستاذ زيد. الحياة السياسية اليوم معطّلة: لا أحزاب سياسية، لا تيّارات، لا جمعيات سياسية تعمل الآن بحرية في سوريا. أيضاً الانتخابات البرلمانية تحتاج إلى حياة سياسية حتى يكون هناك تنافُس =على البرلمان؟
زيد العظم: من دون أدنى شكّ. لذلك بالنسبة لي كان واضحاً منذ لقاء أحمد الشرع مع قناة العربية في نهاية العام الماضي، عندما سأله الصحافي: "ما رأيك بالقرار 2254؟" فهو انقلب على القرار 2254. جواب الشرع كان انقلاباً على القرار 2254، =مُستهزئاً بأنه نذهب ونُعيد بشّار، عِلماً أن القرار الدولي لا يتعلّق ببشّار الأسد نهائياً. القرار الدولي يتعلّق ببيئةِ انتقالٍِ سياسي سليمة وشرعية وقانونية في سوريا. ما تقوم به سلطة الشرع الآن هو مُناقض للقرار الدولي. القرار الدولي هو الخيمة القانونية التي يمكن أن تحصل فيها حياة سياسية سليمة بعد بيئة انتقالية وبعد انتقال سياسي.
لكن الواضح أن سلطة الشرع هي سلطة تسلّطية لا تعنيها على الإطلاق التعدّدية السياسية والأحزاب السياسية والديمقراطية، بل على العكس، مازالت مسألة الديمقراطية بالنسبة للسلطة الجديدة هي محلّ شُبْهة. إذا لا أقول لك هي مُكفّرة، ولكن أستطيع أن أقول لك محلّ شُبهة. والدليل على ذلك أن الإعلان الدستوري لم يتطرّق بكلمةٍ واحدةٍ إلى الديمقراطية. لأنه كما نعلم بأن هذه السلطة التي عملياً وزراؤها السياديون وكبار قادتها ينتمون إلى المرجعية السلفية، المرجعية السلفية التي أساساً لا تؤمِن بالديمقراطية وتعتبرها ضرباً من ضروب الكُفر البوّاح.
كمال خلف: السلفية الجهادية. لكن هنا أيضاً، أستاذ زيد، هناك نقطة مهمّة: في ظلّ غياب واضح للشرعية الشعبية لهكذا اتفاقات، الشرعية الشعبية التي يُعبَّر عنها إما بالبرلمان يُنْتَخب بحرية أو عن طريق استفتاء يُعبّر فيه الشخص عن رأيه، هنا تُطْرَح مسألة المُقايضة: أننا إذا أعطينا إسرائيل ما تريد في سوريا، فإن المقابل سيكون الخروج من العقوبات، انتعاش اقتصادي، الازدهار المالي. وهذا كما تعرف اليوم حاجة أكثر من ضرورية للمجتمع السوري الذي عانى على مدى 14 عاماً من ظروف الحِصار والتجويع وضَنَك العيش والاقتصاد والدمار وغيره.
=كيف ترى اليوم هذه المُقاربة: المال مقابل اتفاق، الانتعاش الاقتصادي مقابل التنازُلات؟
زيد العظم: كما قلت لك، بفائض البراغماتية والبراغماتية التي قد لا تكون عقلانية في بعض الأحيان الموجودة الآن لدى سلطة دمشق، في مخيّلتهم هم إننا إذا ذهبنا باتفاقيةٍ أمنيةٍ وشبه تنازلنا عن الجولان وشبه تنازلنا عن الأراضي التي احتلَّت ما بعد الثامن من ديسمبر، أنه ربما نحصل - كما قلت لك - على تثبيت للسلطة، مشروعية واعتراف، ورَفْع عقوبات ودعم مالي.
لكن هناك مَن يسأل: كل الدول التي أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، هل هي فعلاً في حال من الرخاء الاقتصادي وفي حال من البحبوحة وفي حال من البُلهنية؟ الجواب: لا.
النقطة الثانية وهي الأهمّ: هل ستسمح الدول الفاعِلة، وتحديداً تركيا التي كان لها الدور البارز - وهذا ليس كلامي، هذا كلام سيّد البيت الأبيض - تركيا التي أوصلت أحمد الشرع إلى قصر الشعب في المسيرات، وبالجهد الدولي الدبلوماسي الجبّار الذي قاده وزير خارجيتها هاكان فيدان، هل ستسمح لسلطة أحمد الشرع بأن تدخل في اتفاقية إذعان مع إسرائيل وهي ترى أنها لم تصل بعد إلى تفاهمٍ مع إسرائيل وتفاهمٍ مع تل أبيب حول أين منطقة نفوذي وأين منطقة نفوذك.
السؤال المهمّ الآن ليس في ما يدور في مخيّلة وذهنية أحمد الشرع وفريقه في السلطة. السؤال الجوهري الآن: الدولة التي أوصلت الشرع إلى السلطة، هل ستوافق على هذه الاتفاقية؟ هذه النقطة الأولى. والنقطة الثانية: الشعب السوري، وتحديداً أتحدّث عن أهل حوران، هل سيرضون أن يسلّموا إلى النفوذ العسكري الإسرائيلي من دون ردّة فعل ومن دون رفض؟
الجواب من وجهة نظري: لا. لذلك النقطة الأساسية اليوم التي ينبغي التركيز عليها ليست ما تريده سلطة أحمد الشرع، بل ما يريده أولاً وفقاً للمنطق الغالبي ووفقاً للمنطق السياسي: الدولة الرئيسية التي أوصلت الشرع إلى السلطة. والنقطة الثانية هو الشعب السوري، وتحديداً أهل جنوب سوريا. وهنا أعني أهل حوران، الذين الجيش الإسرائيلي بين الفينة والأخرى يقوم ويدخل داخل سوريا ويعتقل سوريين ويقوم بالتحقيق مع سوريين وَسْط صمت مُطْبَق من سلطة دمشق. فإلى متى سيبقى أهل جنوب سوريا صامتين؟ ربما الأيام القادمة تجيب.
كمال خلف: ما تداعيات ذلك، أستاذ زيد؟ ما نراه هو سوابق، سوابق في الحياة السياسية السورية. ما التداعيات القادمة في حال قفز بالهواء؟ أمر يطرح الكثير من التساؤلات حول كيف رُكّبت السلطة، الدعم الدولي والعربي الذي تحظى به رغم ما نراه من إخفاقاتٍ تحدّثت عنها اليوم؟
زيد العظم: أنا أستبعد كلياً أن تحصل هذه الاتفاقية، لأن هذه الاتفاقية إنْ حصلت، إسرائيل صارت عملياً بالبوكمال، أي اقتربت كثيراً من حدود تركيا وعلى حدود العراق.
لن تسمح تركيا لأحمد الشرع باتفاقيةٍ أمنيةٍ من هذا النوع. أكاد أن أقول لك: مستحيل أن نشهد اتفاقية أمنية بهذه الشروط المُجْحِفة، وهذه الشروط المُجْحِفة للشعب السوري أننا نسلّم الجنوب السوري عسكرياً بشكلٍ قانوني هذه المرة لإسرائيل. ماشي، جنوب سوريا وكل سوريا الآن هي بالمنطق العسكري مُستباحة أمام إسرائيل، ولكن هذه الاتفاقية تشرّع هذا الاستباحة. أقول لك: هذه الاتفاقية من المستحيل أن تحدث، لأن تركيا لن تقبل، لأن هذه الاتفاقية تعني "ممر داوود" و"كريدور داوود"، وبالنسبة لتركيا خط من الخطوط الحمر.
الشعب السوري لن يقبل بهذه الاتفاقية. الضمير الوطني لدى الشعب السوري ما زال حيّاً. فلذلك أعتقد: إن أردت الإجابة عن موضوع التداعيات، أقول بأنه لن نشهد تداعيات، لأنه يبدو لي بنسبة 99 في المئة أن هذه الاتفاقية لن تحدث بصيغتها الراهنة، لأنها هي اتفاقية إذعان. لا الشعب السوري سيقبل بها، ولا التركي - الدولة الأساسية اليوم والمُتَحَكّمة بالملف السوري والمُتَحَكّم بقصر الشعب - لن تقبل بهذه الاتفاقية.
كمال خلف: سأختم معك، أستاذ زيد. السابقة التاريخية في تاريخ سوريا المعاصِر، كنت أقول: إن ما نشهده ربما لم يمر في تاريخ سوريا. رغم أن سوريا شَهِدَت انقلابات، وشَهِدت استبداداً، وشَهِدت حياة سياسية أيضاً مزدهرة وحُقَباً كثيرة، لكن كثير من المُراقبين للوضع السوري يقولون: إن ما يجري اليوم هو سابقة في تاريخ سوريا المعاصر.
ماذا سيقول التاريخ عن هذه الحُقْبة برأيك، أستاذ زيد؟
زيد العظم: التاريخ، ماذا سيقول عن هذه الحُقْبة؟ سيقول أن هذه حُقْبة غير مسبوقة، أو ربما يقول: حُقْبة الصدفة، الصدفة المَحْضًة. اليوم فصيل جهادي، وهذا الفصيل في بداية الثورة كان ضدّ الجيش الحرّ، وقدّم خدمات - وقلتها في أكثر من مقابلة - قدّم عملياً بقتاله للجيش الحرّ خدمات للنظام السوري بشكلٍ غير مباشر، سواء كان يدري أو لا يدري. لكن سنة 2012، عندما يقوم هذا الفصيل، جبهة النصرة التي عملياً كوادر جبهة النصرة المُنَحلّة عملياً هي اليوم مَن تقود سوريا، عندما قاتل الجيش الحرّ سنة 2012، والجيش الحرّ وقتها كان يأخذ ويحظى بالدعم الدولي، ولكن بعد أن هُزِمَ الجيش الحرّ والمعارك أمام جبهة النصرة، منذ ذلك التاريخ توقّف الاعتراف الدولي والشرعي بالثورة السورية.
إذا في يوم من الأيام أراد التاريخ أن يقول، فيقول بأنه أولاً: حُقْبة صراع الدول على سوريا، وحُقْبة الصدفة المَحْضَة.
كمال خلف: شكراً جزيلاً لك، أستاذ زيد العظم المحامي والناشط السياسي، كنت معنا مباشرة من باريس. أشكرك جزيل الشكر، شرّفت في هذه الحلقة معنا. نأمل أن تكون معنا أيضاً في حلقاتٍ مقبلة نتحدّث فيها عن الشأن السوري في ظروفٍ مختلفة.
شكراً جزيلاً مشاهدينا. دوائر القرار انتهى لهذا الأسبوع. نلقاكم الأسبوع المقبل بذات التوقيت الحالي، بمشيئة الله. إلى اللقاء.