حزب الله... العام القاسِم

عامٌ على تولّي الشيخ نعيم قاسم الأمانة في حزب الله، عام حمل معه تحديات كبرى ومحاولات مستمرة لمحاصرة المقاومة وبيئتها. في هذه الحلقة نناقش الثوابت التي يستند إليها الحزب في مرحلة اشتداد المواجهة، وكيف يوازن بين معطيات الواقع وموازين القوى المستجدّة. ما هي خطوط المرحلة المقبلة؟ وما خارطة الطريق التي يرسمها حزب الله للبنان والمقاومة في ظل التصعيد والتهديدات؟

نص الحلقة

 

 

مايا رزق: عند النشأة ولادة غير عادية، عند بلورة الهوية ظروف غير عادية، عند النهضة العسكرية طاقات غير عادية، في العمل السياسي نعرات ومواجهات غير عادية، في المعارك موازين قوى غير عادية، في التحرّر إنجازات حزب الله غير عادية، وفي أَحْلَك الفصول قيادة غير عادية لمقاومةٍ غير عادية وبيئة حاضِنة غير عادية.

 

فيديو:

الشيخ نعيم قاسم: اليوم إذا أردنا إجراء فحص D N A سيتبيّن شَحْطة في الـD N A مشتركة بين كل هؤلاء الأطفال والنساء والرجال والشيوخ عنوانها مقاومة حتى النصر.

لم يختر الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم كلمة D N A عَبَثًا في السياق وفي التوقيت وفي الاستراتيجية.

=إبن كفرفيلا الجنوبية الذي درس ودرّس مادة الكيمياء يعرف جيّدًا أن الـD N A هو المُخطّط الوراثي للحياة الذي يحافظ على استقرار الكائن الحيّ وينقل الصفات من جيلٍ إلى آخر بصرف النظر عن كل المؤثّرات.

فالمقاومة بالنسبة لقاسم ليست مرحلية بل هي في صُلب مُخطّط الحياة، وهدفها ليس محصورًا بزمانٍ ولا بمكانٍ ولا بأَشخاصٍ، وهذه القِيَم يجري تناقلها كالـD N A جيلًا بعد جيل بطريقةٍ طبيعيةٍ ضمن دورة الحياة الطبيعية ولو كانت كل الظروف غير طبيعية.

ظروف اعتادها نعيم محمد قاسم الذي ولِدَ في منطقة البسطة التحتا ببيروت، سنوات شبابه كانت بين صفوف الجامعة اللبنانية حيث درس الكيمياء باللغة الفرنسية وحلقات الحَوْزة العلمية.

صار باكِرًا عضوًا مؤسّسًا في الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين ورافق نهضة فكرية إسلامية تزامَنت مع التقلّب السياسي في لبنان، شارك في حركة المحرومين عند تأسيسها وتسلّم في حركة أمل مهمّة نائب المسؤول الثقافي المركزي، وأضحى بعدها مسؤول العقيدة والثقافة حيث كان أحد الأمناء في مجلس قيادة الحركة.

بعد عام استقال الشيخ نعيم من الحركة، تابع دراسته الحَوْزَوية ونشاطه التبليغي، وكان مَن وضعوا حجر الأساس في حزب الله، جلس طوال فترة حياته الحزبية على الكرسي الثاني في حزب الله.

تولّى نيابة الأمانة العامة عام 1991، ومذّاك أدار الشيخ نعيم مجلس العمل النيابي في حزب الله وترأّس هيئة العمل الحكومي لمتابعة الوزارات ودراسة هيكليّاتها وقراراتها، وكان المُنسّق العام للانتخابات النيابية في حزب الله منذ أول انتخابات نيابية عام 1992، عاش وعايَش كل المواجهات مع إسرائيل: حرب تموز عام 1993، وحرب نيسان عام 1996، والتحرير عام 2000، وعدوان تموز عام 2006، وفجر الجرود عام 2017، وصولًا إلى جبهة الإسناد وأولي البأس التي أشرف عليها مباشرة.

 

فيديو:

=راميا الإبراهيم: خطوة فيها الكثير من الدلالات ستوجِب التوقّف عندها مليًّا وهي إعلان حزب الله انتخاب الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًّا له خلفًا لسيّد شهداء طريق القدس السيّد حسن نصر الله.

=قيادة حزب الله أكّدت في بيان لها أن مجلس شورى الحزب توافق على هذا الخيار تمسّكًا بمبادئ الحزب وأهدافه وعملًا بالآلية المُعتمدة لانتخاب الأمين العام.

 

مايا رزق: في التاسع والعشرين من تشرين الأول أكتوبر عام 2025، الشيخ نعيم قاسم أمينًا عامًّا لحزب الله في زمنٍ لا يحتمل الهشاشة، وفي مرحلةٍ مفصليةٍ في تاريخ المقاومة لا بل تاريخ لبنان والمنطقة كلها.

 

عبد الله صفي الدين: تعرف سماحة الشيخ نعيم هو من الجيل المؤسّس لكل هذه الحال الإسلامية ومنها حزب الله والمقاومة. الشيخ نعيم هو أمين عام بكل المواصفات القيادية، إضافة لانتخاب أعضاء الشورى له.

 

مايا رزق: كان على الأمين العام لَمْلَمة الصفوف داخل الحزب لمواجهة العاصِف الإسرائيلي غير المسبوق، ومن ثمّة الثبات أمام الصَّفائح الداخلية المتحرّكة تفاديًا لأيّ زلزال قد يُعيد البلاد إلى فترة التقاتُل الأهلي.

 

وفيق صفا: لأن الشيخ نعيم على مدار هذه السنوات الطوال كان نائبًا لسماحة السيّد، وبالتالي العلاقة جدًا جدًا قريبة. أودّ القول إن الذي أطلقه الشيخ نعيم هو صاحب الشعار: "إنّا على العهد"، ولذلك هذا الحزب مستمر. ذهب سماحة السيّد والسيّد هاشم وتركا لنا قادة كبار. الآن الشيخ نعيم موجود، أطال الله عُمره، مع إخوانه بالشورى الحزب سيستمر.

 

مايا رزق: واستمر الحزب بعدما كَثْرَت الرهانات على أنه ضعف لدرجة الموت ببطء. يقول أمينه العام إنه تعافى وبات اليوم في زمن الثبات ما بعد الضربات، زمن الهدوء الاستراتيجي واستحالة تقديم الهدايا المجانية.

 

فيديو:

الشيخ نعيم قاسم: قدّمنا التضحيات الكثيرة من أجل هذا الخط، ومن أجل استقلال لبنان، ومن أجل عزّتنا في لبنان. وقوّتنا هي التي ساعدتنا على هذه النتيجة، وإيماننا هو الذي ساعدنا على هذه النتيجة. لن نتخلّى عن إيماننا ولا عن قوّتنا، لن نتراجع مهما كانت الصعوبات، وحاضرون للمواجهة على قاعدة إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.

لا يوجد لدينا استسلام، لا يوجد لدينا تسليم لإسرائيل. لن تستلم إسرائيل السلاح منا.

 

مايا رزق: عام مرّ على تبوّؤ الشيخ نعيم قاسم الكرسي الأول في حزب الله، وعلى المعركة الأولى أولي البأس. فأيّ انعكاس لهذا العام والأمين العام على المقاومة ومصيرها وسلاحها وناسها؟ وأيّ تأثير وتأثر بالمُتغيرات التي تشهدها البلاد المقبلة على استحقاقات مفصلية؟

حزب الله العام القاسم، اذهب أعمق، تفهم أكثر.

 

الشيخ نعيم قاسم: إننا نريد إقران القول بالعمل.

 

مايا رزق: أهلًا ومرحبًا بكم مشاهدينا الكرام. ينضمّ إلينا في الاستوديو الكاتب والباحث السياسي اللبناني الأستاذ يوسف نصر الله، على أن ينضمّ إلينا من رام الله الكاتب والصحافي نهاد أبو غوش. أرحّب بك أستاذ يوسف من جديد عبر شاشة الميادين، وفي "اذهب أعمق" تحديدًا، بعد عام على تولّيه الأمانة العامة، مَن هو الشيخ نعيم قاسم؟

 

يوسف نصر الله: بسم الله الرحمن الرحيم، تحيّة لك وللمشاهدين وأسرة البرنامج حقيقة.

بعد عام على تولّي سماحة الشيخ –حفظه الله– الأمانة العامة للحزب، يمكننا أن نقول إن حزب الله هو حزب الله، من خلال الحفاظ على نفس الثوابت، نفس المُنطلقات ونفس الأهداف. لم يبدّل ولم يغيّر لا في عقيدته السياسية والجهادية، ولا في رؤيته لحقيقة وطبيعة الصراع مع العدو الإسرائيلي ومع مشروع الهيمنة الأمريكية وأدواتها في لبنان وفي المنطقة.

كان سماحة السيّد –قدّس الله روحه– رجل مرحلة أدّاها وأتمّها وأنجز ما استوجبته من متطلّبات البناء والتحضير والإعداد والتطوير والجاهزية. اليوم سماحة الشيخ هو رجل هذه المرحلة بكل ما تنطوي عليه من مخاطر ومن تهديدات ومن تحدّيات.

 

مايا رزق: أريد أن أسألك، ما هو الاختبار الأصعب بالنسبة للأمين العام الشيخ نعيم قاسم خلال العام الماضي عقب استشهاد السيّد حسن نصر الله؟

 

يوسف نصر الله: الحقيقة، جملة التحدّيات التي واجهت حزب الله في هذه المرحلة التي هي مجتمعة غير مسبوقة بالمفرّق. ربما حزب الله تعرّض لتحدّيات مماثلة، لكن أن يجتمع هذا الحجم من التحدّيات وهذا الحجم من المخاطر في هذه المرحلة الحسّاسة داخليًّا وخارجيًّا، لعلّه هذا غير مسبوق.

هذا الأخطر الذي واجه سماحة الشيخ والذي واجه حزب الله عامة: التحدّيات الهائلة، التحدّيات الكبيرة، كان معنيًّا بفحص واختبار بشكلٍ دائم مدى جدّية جهود والتزامات الدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار. كان معنيًّا بوضع الدولة والجيش واليونيفيل ولجنة الإشراف أمام مسؤوليّتها في وقف الاعتداءات والانتهاكات والتجاوزات الإسرائيلية المستمرّة، واستنفاذ كل الفرص المُعطاة لها في هذا المجال. هذا تحدٍّ كان أساسيًّا لا شكّ. يبقى هنا صبر المقاومة رهنًا بمدى نجاح — حتى لا نتجاوز هذه الفكرة — رهنًا بمدى نجاح هذه الجهود في لَجْم الاندفاعية العدوانية الإسرائيلية.

التحدّي الآخر الذي واجه سماحة الشيخ والذي واجه الحزب عامة هو تحدّي الاهتمام بعملية إعادة البناء وإعمار ما هدّمته الحرب الإسرائيلية، وتأمين كل المُستلزمات الضرورية والأساسية والمُلحّة للبيئة الحاضِنة التي ما زالت إلى الآن تُلَمْلِم آثار الحرب وتبعاتها.

وأيضًا التحدّي الذي ما زال ماثلًا إلى الآن هو تحدّي إعادة الاعتبار لمعادلة الردع التي هي معادلة حاكِمة في إدارة وصياغة المواجهة مع العدو بما يحول دون تجرّؤ الإسرائيلي على استباحة الداخل اللبناني كما يفعل، وبما يحول دون تجرّؤ الإسرائيلي على مواصلة اعتداءاته المستمرة واليومية على لبنان.

=والتحدّي الأهمّ لعلّه هو استكمال حزب الله لمسار تعافيه: التعافي السياسي والتعافي التنظيمي والتعافي الاجتماعي، والأهمّ التعافي الجهادي. ولعلّ من أهمّ عناصر القلق اليوم — القلق الإسرائيلي والقلق الأمريكي — هو ما يُسمّى "عودة حزب الله" أو "عودة التعافي إلى حزب الله"، ربطًا بجملةٍ من الاعتبارات.

 

مايا رزق: أمس في الكابينات ناقشوا هذا الأمر.

 

يوسف نصر الله: تمامًا، يوميًّا هذا الكلام، رَبْطًا بمجموعةٍ من الاعتبارات. الاعتبار الأول أن الحرب لم تقضِ على كامل القُدرة العسكرية للحزب، وإن ألحقت بها أضرارًا كبيرة. وإن الحزب يمتلك من الخبرة والتجربة والبنية التحتية ما يجعله قادرًا على التعافي بصورةٍ قياسيةٍ وبوقتٍ قياسي. وأن الحزب، كما يصفونه، جماعة ذكّية مَرِنة، قادِرة على تحمّل الخسائر وامتصاص الصَدَمات، مثلما ظهر. وإن الحزب جماعة قادِرة على استخلاص العِبَر والدروس من الحرب، وقادرة على التعلُّم، وقادرة على التكيّف مع ظروف المرحلة الجديدة وظروف الواقع الجديد.

 

مايا رزق: هناك مَن يقول بأن هذه المرحلة التي مرّ بها حزب الله كمؤسّسةٍ وكحركةٍ مقاومة يمكن أن نسمّيها بأنها انتقال من زعامة كاريزميّة إلى مَأْسَسَة القرار تحت قيادة الشيخ نعيم قاسم.

هل ترى هذا التوصيف واقعيًّا؟ وبالتالي، إن كان كذلك، ماذا ترتّب من متغيّرات في داخل الحزب؟

 

يوسف نصر الله: أولًا، الحديث عن كاريزما سماحة السيّد هذا حديث لا نقاش فيه. لا شكّ أن شخصية السيّد فرادة، شخصية السيّد واستثنائيّته، ودورها خلال 30 سنة من تاريخ الصراع، دورها الحاسم على هذا الصعيد، ودورها في بناء القوّة كما قلنا، وفي بناء القُدرة، ودورها في جعل الحزب أكثر جاهزيّة لمواجهة المُخطّط الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، لا شكّ أن هذه الشخصية لها استثنائيّتها ولا يمكن القياس عليها.

كل شخصية من شخصيات الحزب لها فَرَادتها ولها استثنائيّتها ولها بَصْمتها ولها طريقتها في إدارة الحزب. 

 

مايا رزق: وتأثيرها على هَيْكلة أية مؤسّسة؟

 

يوسف نصر الله: تمامًا، هذا لا يُغيّر في أولويّات اتخاذ القرار داخل الحزب، ولا يُغيّر في طبيعة المؤسّسات داخل الحزب. لكن يحتاج الأمر إلى وقتٍ لكي يعتاد الآخرون على شخصيةٍ كشخصيةِ سماحة الشيخ وطريقة إدارته.

 

مايا رزق: شخصية صعبة؟

 

يوسف نصر الله: لا، لا، لا. لا شكّ أنها شخصية مَرِنة، شخصية مُتابِعة، شخصية قادرة على التقاط اللحظة وقادرة على اتّخاذ القرار الصائِب، وقادرة على التكيّف مع الظروف، وأنها شخصية تُحْسِن الإصغاء إلى آراء النُخَب وآراء المعنيين في اتخاذ القرار داخل الحزب، وتراعي كل الحساسيات الداخلية والخارجية على هذا المستوى.

 

مايا رزق: ولكن هناك مَن يقول بأن هذه الشخصية — شخصية الشيخ نعيم قاسم — هي مُتعَنّتة بعض الشيء في ما يخصّ بعض القرارات؟

 

يوسف نصر الله: شخصية سماحة الشيخ شخصية مَرِنة جدًّا، لكنها مُتصلّبة ومُتَعَنّتة — كما عبّرتِ — حيال أية قضية يمكن أن تتجاوز الثوابت داخل الحزب. وهو دَيْدَن كل الشخصيات المؤسّسة داخل الحزب، الحريصة على أن لا يخرج الحزب عن هذه الثوابت، الحريصة على أمانة دماء الشهداء وأمانة دماء القادة الذين سبقوا وقدّموا التضحيات الجِسام على هذا الصعيد، للحفاظ على ما وصلنا إليه من إمكاناتٍ ومن قُدرة، حزب فاعِل على مستوى الداخل وعلى مستوى الخارج.

 

مايا رزق: أستاذ يوسف، صعود خطاب الشيخ نعيم قاسم الواقعي إلى حدٍّ كبيرٍ — وهو ملحوظ ليس خفيًّا على أحد — هل هو انعكاس لشخصيّة الأمين العام؟ نحن نتحدّث عن رجلٍ علمي، هو كاتِب ومؤلّف وباحِث وعميق ومُتعمّق؟ أمْ هي ضرورة المرحلة؟

 

يوسف نصر الله: يمكننا قول الأمرين. الشيخ لا شكّ أنه شخصية مُتابِعة، شخصية أكاديمية، شخصية علمية، يُحْسِن اتّخاذ القرار ويُحْسِن تقدير الموقف ويُحْسِن البناء على المعطيات والمؤشّرات الصاعِدة إليه من كل الجهات المعنية بتزويده بالمُعطيات اللازمة وبالمعلومات اللازمة.

لكن هذا الأمر ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة اللحظة وخصوصيّة المرحلة. =حزب الله اليوم معني أكثر من أيّ وقت مضى باحتساب خطواته جيّدًا في هذه المرحلة الحسّاسة والحَرِجَة والحاسِمة على أكثر من صعيد.

 

مايا رزق: تفضّل بالبقاء معنا أستاذ يوسف.

اطلالات مختلفة مشاهدينا الكرام للشيخ نعيم قاسم رَسَمَت ملامِح سياسة حزب الله ما بعد الحرب وواءمت المرحلة ومُتغيّراتها كما ذكرنا، فما عناوينها الأساسية؟

البداية ستكون مع موضوع — بطبيعة الحال — المقاومة. المقاومة جزء من دستور الطائف وهي أمر ميثاقي. إنه عنوان أساسي في السياسة العامة. ومن هنا دعوة إلى مناقشة استراتيجيّة أمن وطني تأخذ بقوّة لبنان، وليس وضع جدول لنزع السلاح. فالسلاح هو لمقاومة إسرائيل، لا علاقة له بالداخل. هو قوّة لبنان فيما لا يُراد للبلاد ذلك.

والدليل أن الجيش اللبناني ممنوع من السلاح الذي يمكن أن يقاتل إسرائيل.

المقاومة أيضًا تشدّ على يدي الجيش لمواجهة العدو الحقيقي، وهي معه دائمًا، كما ذكر الأمين العام اليوم. كلام واضح في هذا الإطار، وتأكيد على أن المقاومة مع الجيش والشعب، أي لا تُصادِر مكانة أحد ولا عطاء أحد ولا مسؤولية أحد.

الجيش مسؤول وسيبقى مسؤولًا، والشعب مسؤول وسيبقى مسؤولًا، والمقاومة مسؤولة لأنها خيار، وعلى الذين اختاروا أن يقاوموا ويقوموا بواجبهم فيها.

في شأن الحكومة، دعوة لها إلى تحمّل مسؤوليّاتها بحماية السيادة الوطنية والقيام بالإجراءات التنفيذية لإعادة الإعمار. هذا ما يتكرّر في خطاب حزب الله على لسان أمينه العام.

فالسيادة الوطنية يجب أن توضَع على رأس جدول الأعمال، وتحقيقها يمرّ بمنع بقاء إسرائيل في لبنان.

أما في الحياة السياسية الصاخِبة دائمًا في لبنان، فيؤكّد الحزب أنه يعمل على مسارين مُتوازيين:

أولهما المقاومة لتحرير الأرض، والثاني مسار العمل السياسي لبناء الدولة من خلال تمثيل الناس ومتابعة قضاياهم والمشاركة في الحياة السياسية حتى تنهض الدولة بأبنائها، لا تغليب لمسارٍ على آخر.

الخلاصة: إصرار لدى حزب الله على بناء الدولة وتمكين المؤسسّات وتقوية الجيش وتحمّل الدولة مسؤوليّاتها في الحرب والسلم، وبناء استراتيجية أمن وطني واستراتيجية دفاعية.

 

ينضمّ إلينا من رام الله الكاتِب والصحافي الأستاذ نهاد أبو غوش. أهلًا ومرحبًا بك أستاذ نهاد في "اذهب أعمق" عبر الميادين.

الشيخ نعيم قاسم تولّى الأمانة العامة وسط أحداث مُزَلْزِلة: اغتيالات لقادة حزب الله على رأسهم السيّد حسن، والحرب كانت في أوجّها.

أيّ حزب ترأّس الشيخ نعيم؟ وبعد عام، كيف يمكن أن نُقيّم وَقْع الاغتيالات على هذا الحزب؟

 

نهاد أبو غوش: مساء الخير، تحية لكم وللضيف الكريم والمشاهدين.

 

مايا رزق: مساء النور.

 

نهاد أبو غوش: بلا شكّ أن سماحة الشيخ نعيم قاسم حين تصدّى لهذه المهمّة — لا أقول وَرِثَ هذه المهمّة أو كُلّف بها، بل تصدّى لها — فهو تصدّى لمهمّة بالِغة الصعوبة والتعقيد، سواء بسبب الظروف الإقليمية والعدوان الإسرائيلي الأمريكي المستمر، أو حتى بسبب التحوّلات التي جرت في المجتمع اللبناني وأدّت إلى حصول انزياحات أو انحيازات ضدّ المقاومة أو ضدّ خط المقاومة. وصرنا نسمع كلامًا لم يكن أحد — ربما إلا قلّة قليلة جدًّا من القوى السياسية اللبنانية — تتحدّث عن حزب الله باعتباره أداة لجهةٍ خارجية، وأنه ليس لبنانيًّا، وأنه يُعطّل مسار التنمية والإعمار والازدهار، كأن حزب الله وسلاح حزب الله هو الذي يمنع التقدّم والازدهار والرخاء عن لبنان بسبب امتلاكه السلاح.

هذا الكلام الذي كان بكثيرٍ من الدعاية والضخّ والتمويل الإقليمي والضغط الأمريكي والتهديدات، انطلى على فئات واسعة من اللبنانيين، إلى درجة أن الاصطفافات التي جرت في المجتمع اللبناني غيّرت تلك التي كانت قبل الضربات الغادِرة التي تعرّض لها الحزب وتعرّض لها لبنان.

لكن الآن، بعد عام من هذه الأحداث، وخصوصًا بعد تصريحات نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" أو "إسرائيل الكاملة" بحسب تسميته، أو حتى تصريحات القادة العسكريين عن البقاء في الأراضي المُحتلّة في الجنوب اللبناني، وصولًا إلى الاختراقات التي زاد عددها عن 5000 انتهاك واختراق للسيادة اللبنانية ولأرواح اللبنانيين، وآخرها كان ما جرى في قرية بليدة.

هل يا ترى ثمة مَن ما زال يجهل أو لا يرى هذه الطموحات التوسّعية الإسرائيلية؟ إذا كان لا يراها في لبنان، فلينظر إلى سوريا، فلينظر إلى ما تفعله الآلة الاحتلالية العسكرية الإسرائيلية في جنوب سوريا وفي غرب سوريا، حيث تريد فكرة نزع السلاح — حتى ليس فقط عن جزء — هي تريد في سوريا نزع السلاح من الدولة السورية، وليس فقط من حزبٍ أو قوّةٍ سياسية، ولا فقط من منطقة جنوب وغرب سوريا، بل من الدولة السورية.

لأن الضربات الإسرائيلية لإمكانات الجيش السوري جرت في كل أرجاء الجمهورية العربية السورية، بما في ذلك مواقع في ريف حلب واللاذقية، وفي أقصى الشمال وأقصى الشرق، وفي جميع المحافظات.

إذن، المُخطّط الإسرائيلي للتوسع والعدوان والطموحات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًّا باتت واضحة. وبالتالي، ربما هذا يؤّثر على إعادة تنظيم الاصطفافات في المجتمع اللبناني، ليدفع بعض الناس إلى الإدراك فعلاً أن سلاح المقاومة هو سلاح في صالِح لبنان، وليس سلاحًا لفئةٍ أو حزبٍ أو طائفة.

 

مايا رزق: أستاذ نهاد، بما أننا نتحدّث عن الطموحات الإسرائيلية وعن المُخطّط الإسرائيلي، لماذا يندرج موضوع اغتيال الأمين العام الشيخ نعيم قاسم في أولويّات هذه الطموحات الإسرائيلية وهذه الأهداف الإسرائيلية منذ اللحظة الأولى لتولّيه الأمانة العامة؟

 

نهاد أبو غوش: طبعًا، إسرائيل ترى نفسها بأنها مُولَجة بتنفيذ القانون الذي تراه هي، الذي تسنّه هي وتطبّقه هي، بإعدام مَن تراه يهدّد أمنها أو يهدّد نفوذها وطموحاتها وعدوانها.

ولذلك، الحالة الرمزية التي بات يشكّلها الشيخ نعيم قاسم من خلال قُدرته على التعاطي مع التحدّيات الداخلية والخارجية، وقُدرته على عبور هذه المرحلة البالغة الصعوبة، ثم ثباته المبدئي على ثوابت المقاومة، أظهر قَدْراً عاليًا جدًّا من المرونة في التعاطي مع قضايا المجتمع اللبناني الداخلية، وحتى في الحديث عن سلاح حزب الله بربطه بالسيادة اللبنانية، لأن السيادة أمر لا يتجزّأ، لا تقتصر فقط على سحب سلاح حزب الله، فلينزعوا سلاح الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، هكذا قال أكثر من مرة.

وبالتالي، هذا بات يمثّل حالة رمزية خطيرة، مع الفارِق في ضوء التحدّيدات الحالية وفي ضوء المُعادلات التي باتت ترتسم بات الشيخ نعيم قاسم يمثّل حالة قيادية، أنا أعتقد أنها أيضًا عابِرة لحدود الطائفة والدولة والدِيْن والقومية.

ولعلّ من أجمل التعبيرات التي قرأتها — وأنا أعدّ لهذا اللقاء — في تعريف المقاومة، في تعريف الإرث الذي ورثه عن =سماحة الشهيد السيّد حسن نصر الله، أن المقاومة ليست مجرّد اندفاع عاطفي بحمل السلاح في مواجهة العدو، ليست بالكلمات العسكرية. عرّف المقاومة على أنها مزيج من القِيَم الإنسانية الخالدة، العابرة للتاريخ والحدود والقوميات والأديان: هي الحب والكرامة والعزّة والنصر والأمل والمستقبل.

فعلاً، هذه هي توليفة تجعل من المقاومة منارة لكل أحرار العالم بصرف النظر عن أديانهم ومُعتقداتهم.

وهذا الأمر خطير جدًّا بالنسبة لإسرائيل، لأن إسرائيل تريد أن تحاول حَصْر حزب الله وسماحة الشيخ نعيم قاسم في كونه فصيلًا عسكريًّا متمرّدًا على الدولة، أو فصيلًا لطائفةٍ ضدّ طوائف أخرى. هكذا يريدون تعريف الأمر.

وهذا التعريف ينطلي على بعض اللبنانيين، وحتى تروّج له الإدارة الأمريكية. أذكر هنا بما قالتها أورتاغوس مرة من على درج القصر الرئاسي حين أعطت الفضل في الاستقرار لإسرائيل بأنها هي التي مكّنت من الوصول إلى هذه النقطة، بداية عهد جديد وحكومة جديدة.

لكن الوقائع والأحداث والمواقف والتطوّرات كلها تزكّي رواية حزب الله وتَدْحَض رواية إسرائيل والولايات المتحدة وأعوانهم، سواء كانوا في داخل لبنان أو حتى في المحيط العربي والإقليمي.

 

مايا رزق: تفضّل بالبقاء معنا أستاذ نهاد أبو غوش، وأيضًا الدعوة مقدّمة لك أستاذ يوسف نصر الله.

نواصل هذا النقاش ونذهب أعمق، ولكن بعد الفاصل.

 

مايا رزق: من جديد، أهلًا ومرحبًا بكم إلى "اذهب أعمق".

علامات فارِقة طبعت معركة "أولي البأس"، معركة ظنّ الاحتلال أنها ستنتهي في مَهْدِها بعد اغتيالات قادة المقاومة، فكان الردّ قاسمًا بقيادة راكمت الإنجازات العسكرية والعملياتية والاستخبارية.

الثامن من تشرين الأول أكتوبر 2023، بدأ الإسناد تأدية الواجب في نُصرة الشعب الفلسطيني وتقديرًا لمصلحة لبنان بمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه في غزّة، وإلا فلبنان من أول المُتضرّرين.

على مدى عام، تصدّت المقاومة للعدوانية الإسرائيلية، لكن الاحتلال واصل تماديه مُستبيحًا القرى والأحياء والمدنيين، وبدأ في اغتيالات القادة، أولها لمُنسّق أركان العمليات الشهيد فؤاد شكر في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، ليُمثّل ذلك تحوّلًا في المسار.

المقاومة ردّت في ضاحية تل أبيب مُسْتَهْدِفة مبنى العمليات في وحدة الاستخبارات العسكرية 8200.

السابع عشر من أيلول سبتمبر من عام 2024: مجزرة أجهزة النداء وأجهزة اللاسلكي، ثم اغتيال قائد الرضوان إبراهيم عقيل وعدد من القادة.

وفي الثالث والعشرين من أيلول سبتمبر: 1600 غارة بواسطة 250 طائرة في يوم واحد، و558 شهيدًا بينهم 50 طفلًا.

هكذا تصاعَد العدوان ليأتي 27 أيلول سبتمبر يوم استهداف الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله في غرفة العمليات المركزية خلال إدارته المواجهة.

وفي الرابع من تشرين الأول أكتوبر: عدوان عنيف على مقر العمليات في الضاحية الجنوبية لبيروت، هدفه السيّد هاشم صفي الدين.

هذا الاغتيال سبقه الاحتلال بهجومٍ على جنوب الليطاني بخمس فرق ولواءات النُخْبة مع تغطية جوية كاملة. معركة تاريخية خاضها المقاومون فأجبروها على التراجع.

المواجهة البرّية توازَت مع تواصُل إطلاق المقاومة الصواريخ والمُسيّرات باتجاه المواقع والمقار العسكرية الإسرائيلية في عُمق الكيان، عملاً بمُعادلتين أعلنها الشيخ نعيم قاسم: "حيفا مقابل الضاحية، وتل أبيب مقابل بيروت".

إذًا، فيما توقّع الاحتلال أن ينتهي حزب الله باغتيال قياداته وكوادر عسكرية، كان الصمود هو العنوان.

وكانت العوامِل الحاسِمة فيه: إعادة البنية القيادية للمقاومة بملء الشواغِر وانتخاب الأمين العام، والصمود التاريخي للمقاومين في القرى الأمامية مع مواصلة استهداف الجبهة الداخلية، إضافة إلى البيئة الحاضشنة للمقاومة والالتفاف الشعبي حولها.

ذلك أدّى إلى تسارُع الاتصالات لوقف إطلاق النار التي قادها عاموس هوكشتاين، فيما وضعت قيادة حزب الله مع رئيس البرلمان نبيه بري الخطوط الحمر، ومنها:

حصر تطبيق الاتفاق بالجيش اللبناني فقط، وعدم صلاحية أيّ طرف دولي للقيام بأيّ نشاط مباشر على الأراضي اللبنانية.

 

أجدّد الترحيب بضيفينا من رام الله الكاتِب والصحافي نهاد أبو غوش، وأيضًا ضيفي هنا في الاستوديو الكاتب والباحث السياسي الأستاذ يوسف نصر الله.

أذهب إليك أستاذ يوسف: الأمين العام الشيخ نعيم قاسم كان حاضرًا في كل المواجهات بين لبنان وإسرائيل منذ ثمانينات القرن الماضي، ولكن معركة "أولي البأس" كانت المعركة العسكرية الأولى التي يقودها كأمين عام.

ومن هنا، ربما تعريف ونسأل: مَن هو الشيخ نعيم قاسم ميدانيًّا وعسكريًّا وكقائدٍ عسكري انطلاقًا من شكل "أولي البأس" ومخرجاتها؟

 

يوسف نصر الله: أولًا، سماحة الشيخ هو من الجيل المؤسّس في حزب الله، وبالتالي هو على دراية وإحاطة كاملة بكل مستويات الحزب، سواء كانت عسكرية أم ثقافية أم تربوية أم سياسية أم تنظيمية.

لكن الشأن العسكري، وفق ما آلت إليه التطوّرات الأخيرة ووفق ما انتهت إليه معركة "أولي البأس"، كرّس زعامة وقيادة الشيخ نعيم قاسم كقائدٍ عسكري ميداني شجاع، قادر على المبادرة، قادر على اتّخاذ القرار، قادِر على الصمود، قادر على مواجهة التحدّيات الصِعاب في الزمن الصعب، وفي زمن التخلّي، تخلّي الجميع عن المقاومة، وتخلّي الجميع عن مشروع المقاومة وعن فكرة المقاومة.

وبالتالي، استطاع سماحة الشيخ أن يقود هذه السفينة في أحلك الظروف وأصعب الظروف التي واجهت المقاومة منذ تاريخ نشأتها إلى الآن.

 

مايا رزق: هل لديه خبرة عسكرية؟ نتابع هذه المشاهد للشيخ نعيم قاسم يرتدي البزّة العسكرية، وأيضًا نلاحظ أنه حاضِر في الميدان؟

 

يوسف نصر الله: حزب الله، دعينا نقول، هو حزب جهادي، هو حزب عسكري. لا يوجد أحد في حزب الله لا يمتلك الخبرة العسكرية، وإنْ كان الموضوع نسبيًّا.

لكن لا يوجد أحد في حزب الله بأيّ مستوى من المستويات ليست لديه معرفة — على الأقل بالحدّ الأدنى — معرفة عسكرية.

فكيف الحال بالجيل المؤسّس، بالجيل الذي خطا الطريق الأولى والمسار الأول لهذا الحزب الجهادي الذي هو حزب المقاومة؟

فمن الضرورة، أو بالضرورة، أن يكون الشيخ من العارفين بالشأن العسكري، والعارفين بالأمور العسكرية، والعارفين بالسياسات والاستراتيجيات العسكرية الكاملة.

وهو أهل ومحلّ لقيادة المقاومة ولقيادة الحزب.

 

مايا رزق: القرار الأخير كان عند الشيخ؟

 

يوسف نصر الله: لا شكّ أن أولويّات القرار في الحزب للأمين العام، مساعدين على كل مستوى: منها مساعدين ومعاونين عسكريين، ومنها معاونون في كل المستويات الأخرى والمجالات الأخرى.

لا شكّ أن في مجالات فنية وفي مجالات تقنية وفي مجالات مهنية تحتاج إلى استشارات وتحتاج إلى بلورة للقرار. وهذا ما يخدم عملية صناعة القرار نحو أفضل.

 

مايا رزق: هناك مَن يقول بأن القرارات وقتها كانت تُتّخذ في طهران؟

 

يوسف نصر الله: هذا حديث مُغْرِض يهدف إلى شَيْطَنة الحزب ونزع عنه الأجندات الوطنية ونزع عنه المشروعية الوطنية وربطه بمصالح خارجية ليس إلا.

وهذا ليس جديدًا في الدعاية المُغْرِضة التي تستهدف الحزب. منذ نشأة الحزب يتعرّض الحزب لمثل هذه الدعاية: أنه يدافع عن المشروع النووي الإيراني، وأنه يدافع عن المشروع الإيراني في المنطقة.

وهذا خلاف الواقع. أثبت الحزب منذ نشأته إلى الآن أن المصالح الوطنية هي المصالح الحاكمة في أدائه السياسي وفي أدائه العسكري، وفي دفاعه عن قضايا لبنان ومصالح لبنان وأمن لبنان.

 

مايا رزق: أذهب إليك من جديد أستاذ نهاد. بعد الترحيب بك مجدّدًا، على الأرض في ما يخصّ "أولي البأس": مقاتلون في لبنان، مقاومون، ولكن بلا قادة ميدانيين وبلا رأس بعد اغتيال الأمين العام السيّد حسن نصر الله.

أي المعركة بالنسبة لإسرائيل كانت يجب أن تكون مُنتهية، ولكنها استمرّت لعشرات الأيام، وبطبيعة الحال كانت هناك ضربات في إسرائيل قالوا بأنها كانت مؤلمة ومُفاجئة.

ماذا تلقّت في "أولي البأس" تل أبيب؟

 

نهاد أبو غوش: نعم، بكل تأكيد. جميعنا يذكر المُسيّرة التي ضربت غرفة نوم بنيامين نتنياهو، وأيضًا الصواريخ والمُسيّرات التي ضربت مواقع قيادية لأجهزة أمنية وقواعد لسلاح البحرية ومنشآت حسّاسة — بعضها كُشِفَ النِقاب عنه، وبعضها ما زال سرًّا.

ثم تهجير كل سكان شمال فلسطين المحتلّة في مناطق الجليل، ومعظمهم لم يعد حتى الآن بالمناسبة بسبب خلافات بينهم وبين دولة الاحتلال على التعويضات.

فعلاً، هل تحقّق الأمن والاستقرار بحيث بات بمقدورهم أن يعودوا؟ عمليًّا، شمال فلسطين المحتلّة شُلّ تمامًا خلال هذه الحرب التي كان فيها حزب الله يواجه جبروت الاحتلال وانفلاته، انفلاته العدواني الذي يستبيح كل شيء، ويستهدف المدنيين ويستهدف المُنشآت الحيوية في قلب العاصمة بيروت وفي معظم مناطق لبنان. استهدف مدارس ومصانع ومصارف وأحياء سكنية بأكملها.

وكل ذلك مع ضربات وطعنات في الظهر تلقّاها حزب الله خلال هذه المعركة تدعوه للاستسلام والتسليم.

لكن دعينا هنا — إذا سمحتِ — نفحص على إسم برنامجكم "اذهب أعمق"، يتبيّن لنا أن المقاومة في الجوهر ليست في العدد والعتاد والمعدّات والتكنولوجيا العسكرية، بل هي في القناعات وفي الإيمان وفي الوجدان وفي الفكر الراسِخ العميق الذي يستند لتراثٍ عُمره مئات السنين، ويستند أيضًا إلى تجربةٍ إنسانيةٍ وعالمية.

باتت تجربة حزب الله وتجربة حتى المقاومة تجربة أممية يجري تناقلها ودراستها من كل جوانبها، بحيث أنها فعلاً ليست مجرّد تجربة محلية بالمعنى الجزئي.

فإذا، السلاح الذي امتلكه حزب الله واستطاع أن يفرض به معادلات إقليمية ومعادلات وطنية في لبنان — مثل موضوع تحرير الجنوب، أو موضوع فرض اتفاق ترسيم الحدود البحرية — كيف رُسِم هذا الاتفاق؟ وكيف فُرِض؟

ألم يكن بفعل سلاح المقاومة الذي كان هو القوّة التي استند لها لبنان الوطن والدولة اللبنانية في ترسيم الحدود؟

ألم يكن ترسيم الحدود معتمدًا على مهارات تفاوضية أو حتى دعم إقليمي من أيّ طرف كان للدولة اللبنانية؟

بل استند هذا الترسيم إلى خشية دولة الاحتلال من سلاح حزب الله أنه قادر على تفجير منشآت استخراج الغاز والنفط في البحر المتوسّط.

ولذلك، هذا الحزب الذي تمكّن من مُراكمة قُدراته العسكرية — والقدرات العسكرية هي مادية ومعنوية أيضًا: هي العِلم والخبرة والمعرفة لإنتاج هذه الأسلحة تحت الاحتلال، وفي مجرى المواجهة اليومية مع الاحتلال في الجنوب اللبناني التي انتهت بتحرير الجنوب. وبالتالي، هذه باتت مُقدّرات يحوزها الشعب اللبناني بكل طوائفه وأطيافه ومكوّناته.

والحزب يقول إن ما يملكه هو للبنان الوطن، لبنان البلد، لبنان الذي هو الوطن النهائي لكل اللبنانيين، كما كرّر هذا الأمر مرارًا وتكرارًا سماحة الشيخ نعيم قاسم.

ولذلك، في اعتقادي أن قُدرة الحزب على مواجهة الترسانة العسكرية الإسرائيلية المُتفوّقة ماديًّا تستند إلى عوامل أخرى يفتقدها الجيش الإسرائيلي وتفتقدها القيادة الإسرائيلية، لأن المقاومة ليست فقط معدّات في مواجهة معدّات، بل هي أيضًا قناعات وإيمان ومبادئ.

 

مايا رزق: وهذا أصلاً ما يقوله حزب الله اليوم عندما يقول صراحة بأن ميزان القوى هو مُتفاوِت بشكل كبير جدًّا في ما يخصّ ما لدى المقاومة الشعبية في لبنان وما لدى إسرائيل المدعومة أمريكيًّا.

أستاذ يوسف، تحدّثنا عن أول معركة عسكرية خلال العام الماضي مع الأمين العام، وأيضًا نتحدّث عن أول قرار أدّى إلى نهاية هذه الحرب ووقفها، بينما العمليات كانت في ذروتها.

هناك مَن يقول صراحة — ونذهب أعمق في ما يخصّ قراءة هذا القرار — بأن هذا القرار وضع نقطة سوداء، نقطة ضعف في سجّل الأمين العام، وهي النقطة الأولى بسجّله كأمين عام.

ما هي الحسابات التي أوصلت إلى هذا القرار تحديدًا؟

 

يوسف نصر الله: دعيني بداية أُصوّب بعد السؤال الذي وجّهته إن مقاومين بلا رأس ومقاومين بلا قيادة، أنا أودّ أن أسجّل تحفّظًا على هذا.

 

مايا رزق: هذا بالنسبة لإسرائيل، هي كانت ترى بأن المقاومين على الأرض — القادة استشهدوا؟

 

يوسف نصر الله: تفترض هكذا، =لكن سُرعان ما رتّب الحزب بيته الداخلي وأعاد ترميم الفراغات وأعاد ترميم المواقع، وبالتالي خاض المعركة، وبدأت عَجَلة المعركة تأخذ منحى تصاعُديًّا، وصولًا إلى ما انتهت إليه في الأسبوعين الأخيرين من المواجهات، حيث شهدنا استهداف غوش دان واستهداف تل أبيب، وبدأ مستوى الألم يعلو — ألم العدو يعلو شيئًا فشيئًا. ولهذا استشعر الإسرائيلي الخطر وعاجَلَ إلى طلب وقف إطلاق النار.

أحببت أن أشير إلى هذه الملاحظة.

الأمر الثاني بموضوع وقف إطلاق النار: أنا لا أخفي عليك، بقرار وقف إطلاق النار، ما ضغط على الحزب هو المشهد الإنساني.

قلق المقاومة لم يكن قلقًا وجوديًّا، ولم يكن قلقًا أمنيًّا، بمقدار ما كان قلقًا يتّصل بضغط المشهد الإنساني: إن ناسنا بالشوارع، وناسنا بالمدارس، والدنيا شتوية، و66 يومًا، وبدأ التحريض الداخلي على النازحين بدعوة أنهم يخبّئون المقاومين، ونوع من هذه الاحتكاكات اليومية كادت تؤدّي إلى انفلاتات داخلية.

وهذا كان خطيرًا. جزء من الضغط الذي مورِس على الحزب لاتخاذ القرار وقتها هو الضغط الإنساني، كما عبّرتُ أنا، الذي شكّل — نحوًا أو بآخر — دافعًا أو محرّضًا أساسيًّا للوصول إلى النتيجة التي وصلنا إليها.

لا شكّ أن عَجَلة الوقت كانت تعمل لمصلحة المقاومة وفقًا للسيناريو الذي كنا نشير إليه الآن، لكن هذا الأمر فيه نوع من التوازن بين: كيف نحفظ البيئة الحاضِنة التي قدّمت التضحيات الجِسام، ونقف على حسّاسيتها وعلى عدم تعرّضها لأيّ نوع من أنواع الضغوط، وأيّ نوع من أنواع التحريض، وأيّ نوع من أنواع الاحتكاك مع المُكوّنات الأخرى للأسف كانت وما زالت تقف موقف العداء للمقاومة وتشمت بالمقاومين وبالنازحين، وبين أن نحفظ ولو بالحد الأدنى سيادة لبنان ومصالح لبنان وخصوصية لبنان وفقًا لما انتهت إليه المعادلة.

 

مايا رزق: أذهب إليك مجدّدًا أستاذ نهاد أبو غوش لنتحدّث قليلاً عن الواقع اليوم.

هناك ضغوط إسرائيلية أمريكية على الداخل اللبناني. الحديث هو عن مِهَلٍ زمنية. نتحدّث عن أشهر. تقول مورغان أورتاغوس في ما يخصّ نزع سلاح المقاومة. ومن هنا أسأل عن إسرائيل تحديدًا وعن هذه المهلة.

إذا نظرنا إلى التاريخ وإلى ما حصل في أكثر من دولة، هناك كثيرون يسترجعون تجربة أيرلندا ويقولون: "انظروا ما حصل في أيرلندا، ربما هذا قد يحصل في غزّة، وأيضًا قد يحصل في لبنان".

ولكن نتذكّر جيدًا أن أيرلندا استغرقت أربع سنوات لتسليم السلاح أو توحيد السلاح، اخترنا ما نختاره من مُفردات. ولكن أيضًا لم يكن هناك بالمقابل إسرائيل، وهي التي تقود إبادة بحقّ الشعوب. هذه المِهَل الزمنية، إسرائيليًّا، كيف يمكن أن نفهمها؟

 

نهاد أبو غوش: إسرائيل طبعًا لديها مشروع في المنطقة. هذا المشروع تسعى، وانكشفت هذه الطموحات مع ردود فعل العالم إزاء جرائمها الوحشية في غزّة أو حتى في الضفة أو في لبنان.

ورأينا العدوانية الإسرائيلية توسّع دائرتها لتشمل دولًا لم تكن على الإطلاق على خارطة الاستهداف الإسرائيلي، مثل قطر على سبيل المثال.

ومَن يتابع الصحافة الإسرائيلية والتحريض الإسرائيلي يجد أنهم يريدون حتى مثلاً نزع السلاح المصري من سيناء.

على سبيل المثال، ويعجبون ويتساءلون لمَن تتسلّح مصر؟ ولماذا كل هذه الصفقات؟ ولماذا كل هذا الاهتمام بتسليح الجيش المصري؟

إذًا، الطموحات الإسرائيلية في التوسّع ليست بالضرورة أن تكون التوسّع بالأراضي.

هي لا تستطيع بحُكم بنيتها الصغيرة أن تبتلع كل هذه الأراضي. وهي بطبيعة الحال ربما تطمع بجزءٍ من سوريا التي هي المنطقة العازِلة كما يسمّونها، إضافة إلى الجولان، وربما تطمع أيضًا بنفوذ في جنوب لبنان وصولاً إلى الليطاني، وربما تطمع ببعض المناطق في الأردن بالمناسبة.

لكن التوسّع الإسرائيلي والطموحات الإسرائيلية ربما تعبّر عن نفسها من خلال مشروع الهيمنة — ليس فقط الاحتلال — معنى الهيمنة على كل مصائر الشعوب ودول المنطقة. وربما أيضًا محاولة إعادة بناء وتركيب الخريطة الشرق أوسطية.

حين يقول نتنياهو أنه يريد بناء "شرق أوسط جديد"، لا يقصد فقط الهيمنة العسكرية الإسرائيلية على الشرق الأوسط، بل ربما إعادة رَسْم الخرائط للدول والكيانات الموجودة.

وأنا لا أستبعد مثلاً أن مشروع تقسيم سوريا مشروع جدّي لدى إسرائيل.

 

مايا رزق: في لبنان، عندما تُعطى مِهَل زمنية مُستحيلة وغير واقعية، الهدف هو ماذا؟

 

نهاد أبو غوش: الهدف هو إعفاء إسرائيل من أية مسؤولية تجاه الهدوء والأمن والاستقرار، ووضع المسؤولية فقط في ذمّة حزب الله والمقاومة.

وأعتقد أن جواب سماحة الشيخ نعيم قاسم كان واضحًا: "لا تسليم للسلاح طالما هناك احتلال وطالما هناك اعتداءات إسرائيلية". والأولى بمَن يطالبون الحزب سواء كانوا أطرافًا لبنانية أو عربية وإقليمية تلك التي تربط الاستثمارات والإعمار بسحب السلاح، الأولى أيضًا أن يطالبوا إسرائيل بسحب سلاحها من الأراضي اللبنانية وانسحابها أيضًا من الأراضي اللبنانية المحتلّة سواء التي احتلّت بعد هذه الحرب أو حتى مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر.

وبالتالي، موضوع المِهَل هو كتلك الإنذارات التي توجّهها إسرائيل وتتبنّاها الإدارة الأمريكية التي تتعاطف وتتفهّم أيضًا حاجة إسرائيل للتوسّع.

قال توم باراك بأن حدود سايكس بيكو ليست قطعية ولا نهائية ويمكن أن تتغيّر. وهو يؤكّد ما قاله الرئيس ترامب أنه مُنْدَهش بسبب مساحة إسرائيل الصغيرة.

وبالتالي، أنا أعتقد أن موضوع سحب السلاح أو سلاح حزب الله هو ذريعة. إسرائيل تريد لبنان بلدًا من دون سلاح — لا الجيش اللبناني ولا حزب الله — لا تريد لأحد أن يقاوم مشروعها وطموحاتها التوسّعية في المنطقة وفي لبنان.

 

مايا رزق: أذهب بهذه الجزئية إليك أستاذ يوسف نصر الله تعليقًا.

لا شكّ في أن حزب الله يدرك جيّدًا هذه الأهداف الإسرائيلية. وبالتالي أسألك: عندما يقول الحزب إنه جاهز للحوار حول موضوع السلاح، ما هي أسس وسقوف هذا الحوار؟

 

يوسف نصر الله: لا شكّ أن الحزب أعلن أكثر من مرة أنه حاضر للانخراط في حوارٍ وطني يناقش قضية السلاح، لكن ضمن استراتيجية دفاعية أو استراتيجية أمن وطني — بمعزل عن المسمّى — تراعي ترتيب الأولويّات: تثبيت وقف العدوان، الانسحاب الإسرائيلي، إعادة الأسرى، وتعزيز قُدرات الدولة الدفاعية لضمان الحماية والسيادة والاستقلال.

الحديث عن نزع السلاح من قِبَل الآخرين أو من قِبَل الإسرائيلي بدعوة "سيادة الدولة" كما يقال داخليًّا هو حديث ممجوج، لأن ما يفعله الإسرائيلي كل يوم يؤكّد بالصوت والصورة، وَهْم الشعار الذي ترفعه الحكومة اليوم بأنها تبسط سيادتها وسلطتها على كامل الأراضي اللبنانية.

الأمر الآخر: أن وضع جدول زمني لتسليم السلاح كما يقال هو حديث يُجافي الواقع.

قد يمتلك الآخر — إسرائيلي أو غير إسرائيلي — مفتاح البداية، لكن بتقديري أنه لا يمكن لأحد في هذا العالم أن يمتلك القُدرة على التحكّم بمسار الأمور أو بصورة النهاية.

اليوم، دعيني أسجّل هذا التقدير: إن من الوَهْم الاعتقاد أن المقاومة ستتخلّى عن سلاحها، وأن المقاومة ستُضْعِف نفسها في هذه المرحلة الحسّاسة والحَرِجَة.

التهديد الإسرائيلي الأمريكي المتواصل بالعودة إلى الحرب وباستئناف الحرب مجدّدًا...

 

مايا رزق: كيف ستتعايَش مع الداخل اللبناني؟

 

يوسف نصر الله: وما حصل في الداخل السوري، في السويداء أو بالساحل السوري أو ما شاكل، وفشل المسار السياسي الدبلوماسي من وقف إطلاق النار إلى الآن في توفير الحماية للبنانيين، وعجز الدولة اللبنانية واكتفاؤها ببيانات الشَجْب والإدانة والاستنكار، كل هذا مع بعضه عزّز اليوم من أهمية وقيمة هذا السلاح بوصفه الضمانة الوحيدة لمواجهة أي عدوان مُحْتَمَل سواء كان إسرائيليًّا أم غير إسرائيلي.

على الجميع أن يدرك أن المقاومة التي دافعت عن لبنان وعن أمنه وعن كرامته الوطنية تؤمِن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أن ما لم يؤخَذ منها بالحرب، وما لم يؤخَذ منها بالميدان وبالقوّة، لا يمكن أن يؤخَذ من خلال التفاوض والحصار.

وإنها معنية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بتبديد أوهام كل خصوم الداخل وأعداء الخارج بأن أيّ مسّ بمكانتها وبدورها وبمُكتسباتها سوف تكون له تبعات خطرة على السِلم الأهلي وعلى الاستقرار في المنطقة.

 

مايا رزق: شكرًا جزيلًا لك أستاذ يوسف نصر الله، الكاتب والباحث السياسي.

الشكر أيضًا موصول لك أستاذ نهاد أبو غوش، الكاتب والصحافي الفلسطيني، كنت معنا من رام الله.

شكرًا جزيلًا لكم على طيب المتابعة. "اذهب أعمق" وصل إلى خواتمه.