فنزويلا – كولومبيا الطاقة والجغرافيا السياسية... لماذا الآن؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا.
من البحر الكاريبي حيث تتقاطع مصالح السياسة مع الأطماع الاقتصادية تعود فنزويلا إلى قلب العاصفة.
الناقلات في عرْض البحر تراقب حركة الأساطيل بين الأمواج ويتحوّل الكاريبي إلى ميدان للبوارِج العسكرية. الأمريكية واشنطن تعلن عداءها وترامب يلوّح بخيارات مفتوحة، بينما كاراكاس ترفع صوتها بالتحدّي من جديد مُستندة إلى ذاكرة طويلة من المواجهة مع الهيمنة الأمريكية.
كمال خلف: وفي الجوار كولومبيا تتحوّل بدورها إلى ساحة توتّر جديدة بعدما خرجت التصريحات بين ترامب وبيترو عن حدود الدبلوماسية.
كمال خلف: في هذه الحلقة من دوائر القرار نسلّط الضوء على النيّات والأهداف الأمريكية في حملة العداء ضدّ فنزويلا وكولومبيا، من تحرّكات الجيوش والأساطيل إلى صراع الجغرافيا والطاقة والأيديولوجيا، وصولاً إلى الجذور التاريخية لصراعٍ لم تنطفء جذوته منذ أكثر من قرن.
فنزويلا وكولومبيا، لماذا الآن؟ هل نحن أمام حرب جديدة في الكاريبي أم أمام إعادة رَسْم لخريطة النفوذ في نصف الكرة الغربي؟
أهلاً بكم.
كمال خلف: أرحّب بضيفي من فنزويلا ميغيل جايمس، الخبير في الجغرافيا السياسية للنفط.
سيّد ميغيل، مساء الخير. سنكون معك في دوائرنا الثلاث لنتحدّث عن فنزويلا، كولومبيا، والأزمة والتهديدات التي تطلقها الولايات المتحدة الأمريكية ضدّهما. حيّاك الله في دوائر القرار.
وسنبدأ من الدائرة الأولى وعنوانها: الانفجار المُحْتَمل، فنزويلا وكولومبيا على خطّ النار.
قبل أن نبدأ الحوار مع ضيفنا، مشاهدينا، سنستعرض أبرز محطّات الأزمة بين فنزويلا وكولومبيا من جهةٍ والولايات المتحدة الأمريكية من جهةٍ أخرى خلال الأيام الماضية. نتابع.
تقرير:
أبرز محطّات الأزمة بين فنزويلا، كولومبيا، والولايات المتحدة: نشرت عشر مقاتلات من نوع F-35 على قاعدة في بورتوريكو كجزءٍ من العملية الأمريكية في البحر الكاريبي. التحرّك يرفع قُدُرات المراقبة والضرب تجاه فنزويلا.
التحق به أسطول حامل طائرات ضخم بقيادة "U.S.S. جيرالد فورد" مع خمس مُدمّرات مُرافقة، وهو أحد أكبر الانتشارات البحرية الأمريكية في الكاريبي منذ عقود.
شنّت الولايات المتحدة ضربات بحرية استهدفت زوارق تزعم أنها تابعة لشبكات تهريب مُخدّرات مُرتبطة بفنزويلا، ما أسفر عن قتلى. نيكولاس مادورو أعلن حال الاستعداد القصوى للدفاع عن البلاد، ووصف الانتشار الأمريكي بأنه أكبر تهديد شهدناه في القارّة منذ مئة عام.
وأعلن مادورو امتلاك بلاده 5000 صاروخ “Egala AS” روسي الصنع للتصدّي لأيّ عدوان أمريكي.
فنزويلا بعثت برسالةٍ إلى الأمم المتحدة تطلب فيها عَقْد جلسة طارئة لمجلس الأمن، متّهمة الولايات المتحدة بأنها تسعى لتغيير النظام في فنزويلا.
على صعيد كولومبيا، ترامب وصف الرئيس غوستافو بيترو بأنه "زعيم مُخدّرات غير شرعي"، واضعاً إسمه في لائحة العقوبات.
الرئيس الكولمبي غوستافو بيترو ردّ بالتحدّي، مُعلناً أنه لن يتراجع خطوة واحدة ولن يركع أبداً، مؤكّداً أن العقوبات الأمريكية أتت انتقاماً لموقفه الداعِم للقضية الفلسطينية.
وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو اتّهم الرئيس بيترو بالجنون. الولايات المتحدة قرّرت تصنيف كولومبيا ضمن الدول التي فشلت فشلاً واضحاً في مُكافحة المخدّرات، وهو ما قد يؤدّي إلى خفض المساعدات. كولومبيا استدعت سفيرها لدى واشنطن، وباترو هدّد باتخاذ إجراءات قانونية ضدّ الإدارة الأمريكية في المحاكم الأمريكية بسبب تصريحات ترامب.
التصعيد شمل تهديدات بزيادة التعريفات الجمركية الأمريكية على صادرات كولومبيا كجزءٍ من سياسة الضغط.
كمال خلف: طبعاً لا تزال =التوتّرات قائمة، وحرب التصريحات كذلك مستمرّة. سيّد ميغيل، لنبدأ من السؤال الأساس في حلقة هذا اليوم: لماذا الآن كل هذا التصعيد ضدّ فنزويلا، وبعد ذلك كولومبيا؟ لكن لماذا الآن؟ لماذا في هذه اللحظة؟
ميغيل جايمس: تحية طيّبة من فنزويلا للأصدقاء في المنطقة. منذ أكثر من قرن كانت فنزويلا على المحكّ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي وبسبب الاحتياطي في الوقود الأحفوري والغاز والنفط، وبالتالي تحوّلت إلى هدفٍ للولايات المتحدة. ولدينا قوانين واتفاقات وطنية تسعى باتجاه التكامُل في المنطقة. إلا أن الولايات المتحدة، ومنذ وقت طويل، تحاول تكوين جيش للسيطرة على منطقة بحر الكاريبي. إن تقارُب فنزويلا من الاتحاد الروسي وإيران والصين وحتى من الهند أمر يزعج الولايات المتحدة التي تفقد سوقاً، والتي تحاول بكل شكل من الأشكال أن تحول من دون أيّ تكامُل سياسي جغرافي، وبالتالي تتدخّل الولايات المتحدة وتعود وتلجأ إلى تطوّرات حربية.
كمال خلف: سيّد ميغيل، ما نراه من تحرّكات الآن عسكرية في الكاريبي - بوارِج وحامِلات طائرات وتهديدات عسكرية مقرونة بالتحرّكات - هل تعتقد أن هذا سيؤدّي إلى حرب؟ أن هذه التحرّكات هدفها شنّ حرب على فنزويلا، عدوان على فنزويلا، والهدف الأساس هو إسقاط النظام في فنزويلا؟ أم لا، ما نراه الآن من تحرّكات عسكرية هو بهدف الضغط لانتزاع تنازُلات من نيكولاس مادورو؟
ميغيل جايمس: هناك أمر غير مُعتاد في هذه التحرّكات لهذه البوارِج الحربية وحامِلات الطائرات والمئات من الجنود، بما في ذلك توجيه ونشر غوّاصة نووية، وهو أمر غير مُعتاد ومُبالَغ به إلى حدّ بعيد.
في طبيعة الحال، الأمر يتعلّق بالقضاء على نظام الرئيس المُنْتَخب الشرعي في فنزويلا، وهو نيكولاس مادورو. وفنزويلا محور أساسي في هذه المنطقة. نحن أعضاء ونشطون في منظّمة الأوبك. وفي فنزويلا أكبر احتياطي في العالم من النفط، ونحن نمثل 20 في المئة من الاحتياطي العالمي للعالم، وهو احتياط نَشِط. ولدينا احتياط نَشِط من الغاز، ونحن ننوي تنمية هذا القطاع الصناعي. وبالتالي، الولايات المتحدة تحاول السيطرة علينا. وأضيف إلى كل ذلك إمكانية خروج دونالد ترامب من الرئاسة ومن البيت الأبيض في الولايات المتحدة. ربما هناك احتمال بأن يبقى البيت الأبيض فارغاً نظراً للمواجهات العديدة. وهناك مجموعة فلوريدا ومجموعة الجمهوريين في واشنطن يتواجهان. هناك 21 مدينة تمّ إضفاء الطابع العسكري عليها في الولايات المتحدة. على الصعيد الاجتماعي، ضغوطات كثيرة.
كمال خلف: هنا سيّد ميغيل، دونالد ترامب بحملة انتخابية يقول إن الولايات المتحدة أغلقت حُقبة الحروب، يقول: "لا حروب، لن نخوض الحروب مرة أخرى". ها هو الآن يلوّح بحربٍ وإجراءاتٍ عسكريةٍ ضدّ فنزويلا.
هذا ما يدفع كثيراً من المراقبين للقول إن ما يجري هو عملية ضغط بالعسكر، ضغط بالقوّة العسكرية لتتنازل فنزويلا. لكن أيضاً في هذا الجانب هناك قرار بإعطاء الضوء الأخضر لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) لتنفذ عمليات داخل فنزويلا.
هل هذا يضعنا، وهل هناك قلق في فنزويلا من أن يكون هناك تكرار لما جرى من سنوات، حيث اعترفت الولايات المتحدة بخوان غوايدو واعتبرت الرئيس مادورو غير شرعي، وكانت هناك عملية لإحداث فوضى وإدخال أسلحة وغيرها؟
كيف ترى هذا السيناريو؟ وهل هو وارد، طالما أن الـCIA أصبحت يداها مُطلقتين تجاه فنزويلا؟
ميغيل جايمس: منذ سنوات تعتبر الولايات المتحدة أن فنزويلا هي ميدان المعركة الخاص بها، وإنها قد جاءت بأمورٍ لا يمكن تصوّرها. وقد بذلت محاولات للقضاء على حياة الرئيس أو إخراجه من فنزويلا. مارست ضغوطات على الدولة وعلى الموارد، وتمّ إغلاق أسواق دورية طبيعية كنا نتبادل معها، وتمّ تدمير الصناعة النفطية في فنزويلا. وقد حاولوا التدخّل من خلال تعيين رئيس زائف من الخارج، وحاولوا التدخّل في القطاع النقدي في البنك المركزي، وفي المحاكم والقضاء وذلك من الخارج، وتمّ اللجوء إلى الكَذِب لوضع اليد على بلادنا عن طريق وبواسطة الهيئات الدولية.
إذاً، بذلت الولايات المتحدة محاولات عديدة، وقد بلغ الأمر مُناقشة الأمم المتحدة أمر اجتياح بلادنا. فقد بذلت الولايات المتحدة شتّى المحاولات لإيقاع نفسها في مجتمعنا ولإطلاق العَنان لحربٍ أهلية. إن وكالة الاستخبارات الأمريكية والموساد وغيرهما تنشط بشكل فادح في بلادنا، ونحن قد احتجزنا عدداً—ونحن قد احتجزنا عدداً—من هؤلاء العملاء. وحاول أعضاء من المخابرات الأمريكية إدخال أسلحة إلى فنزويلا، وبتحديد أهداف عسكرية، وباستهداف شخصيات ثورية فنزويليّة. إنه أمر مأساوي لا تستطيع أية دولة أن تتسامح معه. وهناك حركات سياسية ومخابراتية تحاول التصدّي لهذه المحاولات. وفي الوقت الراهن، تواجِه فنزويلا حرباً على أراضيها، وتواجه مجموعات من المُرتزقة. وإن هذه المجموعة من المُرتزقة قد عاثت فساداً في بلدان كثيرة: في ليبيا، في العراق، في سوريا، في فلسطين، وكذلك في أوكرانيا ضدّ الاتحاد الروسي، وقاموا بالاعتداء على إيران. فإن الوضع واضح، ونحن درسنا كل هذه الحروب والحالات والآليات التي تلجأ إليها الولايات المتحدة لنسف استقرار الأمم.
كمال خلف: أيضاً، موضوع سيناريو الفوضى الداخلية سيناريو مطروح. قبل أن نذهب إلى الدائرة الثانية، سيّد ميغال، ذريعة الولايات المتحدة الأمريكية حيال فنزويلا وكولومبيا هي المخدّرات، نشاط المُهرّبين الذي يتّهم دونالد ترامب فنزويلا وكولومبيا بتقديم تسهيلات أو التورّط في هذه المسألة، ويثبت ذلك عبر استهداف سفن وعرض صوَر يقول بأنها لتهريب المخدّرات.
كيف تنظر، سيّد ميغيل، إلى هذه الذريعة أو إلى هذه التّهمة التي يدخل من خلالها دونالد ترامب إلى التهديد ويستخدمها لتبرير كل التحرّكات التي يقوم بها حيال فنزويلا وكولومبيا معاً؟
ميغيل جايمس: إن الولايات المتحدة والعالم وأوروبا كلهم يدركون ما هي خرائط وممرّات المُتاجرين بالمخدّرات. إن فنزويلا لا تمثل نقطة محورية للاتّجار بالمخدّرات. نحن لا ننتج المخدّرات ولا نستهلكها. =وأذكّركم بتقرير الأمم المتحدة بمكتب مكافحة المخدّرات الذي قد بيّن بأن فنزويلا بعيدة كل البُعد عن أن تكون دولة تُنتج المخدّرات. نحن قد ناضلنا لكي لا تكون بلادنا نقطة محورية أو منصّة لتوجيه المخدّرات إلى كل بلد وقد قمنا بتدمير ما لا يقلّ عن 300 طائرة كان يستخدمها المتاجرون بالمخدّرات في الماضي، وتمّ التعرّف عليها في مناطق نائية في جزر نائية وتمّ تدميرها. وهناك المئات من المُحتجزين. فنحن نكافح المخدّرات، وتدرك الولايات المتحدة أن بحر الكاريبي ليس هو محور نقل المخدّرات، بل إن نقل المخدّرات يتمّ في خليج بنما.
إن الولايات المتحدة التي تهتمّ بهذا الوضع إلا أنها لم تسجن أيّ شخص - أيّ مُتاجِر بالمخدذرات - في الولايات المتحدة، ولم تضع يدها على أموال المتاجرين بالمخدّرات. هم منظّمون على شبكة، وإن الولايات المتحدة قد بثّت شبكة واسعة للمُكافحة، ولكن لم يتم احتجاز أيّ شخص. إلا أن الأمر يتوقّف على الاستعراض وعلى التبريرات للقضاء على...
كمال خلف: سيّد ميغيل، قبل قليل في المقدّمة عرضنا ما قاله الرئيس مادورو: "نحن ليس لدينا برنامج نووي أو أسلحة نووية، ليست لدينا صواريخ موجّهة إلى أراضي الولايات المتحدة الأمريكية". هو يشير إلى ذرائع الولايات المتحدة الأمريكية التي استخدمتها ضدّ إيران وكوريا الشمالية وعدد من الدول، وكأن مادورو يقول إنكم اخترعتم ذريعة جديدة، مثل ذريعة أسلحة الدمار الشامل في العراق بعد غزو العراق، أو الذرائع الأخرى التي من خلالها تحاولون الضغط على الدول وممارسة العداء على الدول.
سنناقش ذلك أيضاً، سيّد ميغيل، لكن إسمح لي أن أنتقل مباشرة إلى الدائرة الثانية من دوائر القرار، مشاهدينا: النفط والجغرافيا السياسية، لعبة الأمم في الكاريبي.
سيّد ميغيل، سنبدأ بالحديث عن النفط لأنك أشرت إلى موضوع الاقتصاد بشكل أساسي. البحث عن كلمة السرّ في ما قامت به الولايات المتحدة الآن، هذا التصعيد ضدّ فنزويلا، كولومبيا، وفنزويلا تحديداً. كلمة السرّ، يقولون: كلمة السرّ النفط. يريد السيطرة على نفط وغاز فنزويلا. دونالد ترامب لا يريد الانتظار.
لكن أيضاً هناك مَن يقول بأنه ليست هذه كلمة السرّ. كلمة السرّ أن فنزويلا بَنَت علاقات مع خصوم الولايات المتحدة الأمريكية وشراكات الصين، روسيا، إيران، هذه هي كلمة السرّ. كلمة السرّ هي الجغرافيا السياسية وليس الاقتصاد.
كيف ترى هذه العوامل التي يمكن أن نعزو إليها تحرّكات الولايات المتحدة الأمريكية ضدّ فنزويلا وكولومبيا؟
ميغيل جايمس: ما من عنصر أوضح في العلاقات الدولية سوى وضع يد الولايات المتحدة على نفط فنزويلا. إن الولايات المتحدة كانت تُدير نفطنا على مدى قرن كامل، وقد حاولت أكثر من مرة نسف استقرار بلادنا. فمن الواضح أنه السبب الرئيسي لمواجهة الرئيس نيكولاس مادورو، وللمواجهة بين مادورو والولايات المتحدة. ونحن تصرّفنا وفق الأسلوب الذي تعتمده كل الدول التي تتطلّع إلى سيادتها في العالم. فإن موقعنا الجغرافي يؤثّر بدوره لصالح فنزويلا. إن فنزويلا هي أحد الأطراف الفاعلة الأساسية على اللوحة الجغرافية السياسية العالمية.
كمال خلف: إسمح لي هنا، سيّد ميغيل. سنطلّ على الجغرافيا السياسية، إذا سمحت لي، على الخريطة، لأنك ركّزت على موقع فنزويلا. سنتحدّث عن الموقع، طبعاً، عن الأهمية الاقتصادية.
مشاهدينا، كما ترون هنا على الخريطة، هذه فنزويلا تقع في شمال أمريكا الجنوبية، على الساحل الجنوبي للبحر الكاريبي، وتطلّ على المحيط الأطلسي إلى الشمال.
طبعاً، هذه الحدود على الكاريبي التي ترونها تمتد لـ2800 كيلومتر من الساحل على الكاريبي، ما يجعلها بوابة استراتيجية نحو البحر الكاريبي، ونحو كذلك أمريكا اللاتينية.
حدودها البرّية تتشاركها مع كولومبيا، هذه هي الحدود البرّية التي تشاهدونها، ما يضعها في قلب منطقة حسّاسة جيوسياسية. طبعاً، هذه الحدود، مشاهدينا، قبل سنوات استُخْدِمَت لبثّ الفوضى في فنزويلا، إدخال أسلحة، وتحت شعار المساعدات، وقتها كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد اعترفت بزعيم المعارضة خوان غوايدو، وأرادت أن تُحْدِث انقلاباً في النظام في فنزويلا.
إذاً، هذه الحدود مع كولومبيا حدود مهمّة جداً. تعدّ فنزويلا بوابة البحر الكاريبي، بمعنى أنها تربط بين محيط الكاريبي - محيط الكاريبي - وأمريكا الجنوبية. طبعاً، تستعمل طرقاً برية وبحرية حيوية تمرّ قرب سواحلها، ما يعطيها أهمية استراتيجية مزدوجة: برّاً وبحراً.
هذا بالنسبة للموقع الجغرافي. الأهمية الاقتصادية تكمُن في الاحتياط النفطي. تحتلّ فنزويلا المرتبة الأولى عالمياً من حيث الاحتياط النفطي المُكْتَشف، حيث تُقدَّر الاحتياطات النفطية بنحو 303 مليارات برميل تقريباً، هذه الإحصائية كانت عام 2023. احتياط فنزويلا في هذا الرقم، في هذه التقديرات، يزيد حتى على احتياطات المملكة العربية السعودية.
تمثل فنزويلا نحو 17 إلى 18 في المئة من الاحتياط العالمي من النفط المُكْتَشف. معظم احتياطاتها تقع في الحزام الأورينوكي - هذا الخط في المنطقة الشرقية التي على الحدود مع غويانا - المنطقة الشرقية من البلاد. لكن هذه الحقول، هذه الاحتياطات، تتطلّب تكنولوجيا متقدّمة للتنقيب والاستخراج. رغم هذه الثروة الكبيرة، إلا أن إنتاج البلاد الحقيقي أقلّ بكثير من الإمكانات بسبب العقوبات، وضعف الاستثمار، والتحدّيات الفنية التي تفتقر إليها فنزويلا.
الاقتصاد النفطي يمثل نقطة ارتكاز في النفوذ الدولي. مَن يسيطر أو يؤثّر على هذه الجغرافيا - على فنزويلا -يتحكّم بجزء كبير من جغرافيا الطاقة في أمريكا اللاتينية.
سأعرض الخريطة التالية: كولومبيا. كولومبيا التي كنا نتحدّث عنها قبل قليل، والتي هي لها حدود مشتركة هنا مع فنزويلا. كولومبيا تطلّ على المحيطين، كما نلاحظ الكاريبي، والمحيط الهادئ، وهذا يعطيها موقعاً استراتيجياً مزدوجاً يجعلها جسراً بين أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى.
تعتبر بوابة واشنطن العسكرية والأمنية إلى أمريكا الجنوبية منذ التسعينيات، خصوصاً عبر قواعدها الجوية.
هنا الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي كولومبيا، وهنا قناة بنما تُحاذي قناة بنما من جهة الشمال الغربي، ما يمنحها أهمية في حركة التجارة والنفط بين المحيطين.
الأهمية بالنسبة لواشنطن كانت: هذه كولومبيا هي الحليف الأبرز لواشنطن في أمريكا اللاتينية، وركيزة برامج مُكافحة المخدّرات والإرهاب منذ خطة كولومبيا عام 2000.
تحتوي على قواعد ومراكز استخبارات أمريكية تُسْتَخْدم في مراقبة فنزويلا بشكل أساسي، ومنطقة الأمازون، والبحر الكاريبي. تعدّ ممرّاً استراتيجياً لأيّ تحرّك عسكري أو لوجستي أمريكي في نصف الكرة الغربي.
هذه إذاً أهمية فنزويلا وكذلك أهمية كولومبيا.
أعود إلى ضيفي، السيّد ميغيل. في ما يتعلّق بهذه الجغرافيا السياسية، السيطرة على فنزويلا هنا بهذا المعنى لا تعني فقط أن الولايات المتحدة، إذا وضعت يدها على احتياطات أكبر من احتياطات المملكة العربية السعودية، بل أيضاً تستطيع أن تحسم الجغرافيا السياسية في كل أمريكا الجنوبية عبر السيطرة على بوابتين، كما لاحظنا في الخريطة:
فنزويلا، البحر الكاريبي، وهنا المحيط الأطلسي، وكولومبيا، المحيط الهادئ والبحر الكاريبي، أليس كذلك؟
ميغيل جايمس: نعم، فنزويلا هي بمثابة توازن جغرافي لكولومبيا في أمريكا الجنوبية. وإن الولايات المتحدة تُدرك تماماً أهمية هذا الموقع الجغرافي. فضلاً عن ذلك، فنحن الدولة الوحيدة التي أطلقت آليات تكامُل كبير، والتي أطلقت مشاريع إنمائية من خلال برامج التكامُل السياسي والجغرافي والسياسي بالاستناد إلى النفط. فإن تاريخنا عريق في هذا المجال، ويستند إلى فكر بوليفار الذي يقضي باستخدام هذه المزايا الخاصة بفنزويلا لتنمية المنطقة والإقليم. وقد ذكرت البوابة على البحر الكاريبي وعلى حوض الأمازون وكذلك على منطقة جبال الأنديز. فإن هذا الموقع مُتميّز ويختلف تماماً عن الولايات المتحدة التي تريد أن تضع فنزويلا في دائرة نفوذها للسيطرة على قارّة جنوب أمريكا بما يمثّل 600 مليون نسمة.
كمال خلف: هنا أيضاً لا بدّ من الحديث عن دور الشُركاء. إذا نتحدّث عن جغرافيا سياسية ونتحدّث عن موقع فنزويلا، وأيضاً كولومبيا، غوستافو بيترو موقفه من الإبادة في غزّة، اعتبر بأن هجوم الولايات المتحدة عليه بشكلٍ أساسي بسبب هذا الموقف من غزّة، لكن هنا نتحدّث عن تموضِع دولي في المعادلة الدولية. فنزويلا لديها حلفاء أو تنتمي إلى مجموعةٍ دوليةٍ، تكتّل دولي يضمّ الصين، روسيا، وإيران ودولاً أخرى.
هنا، ماذا يمكن أن تفعل هذه الدول؟ ماذا يمكن أن يفعل هذا التكتّل الذي تنتمي إليه فنزويلا أمام هذه التهديدات الأمريكية المباشرة؟ هنا الموقع الجغرافي سيكون حاكِماً، بمعنى أن بُعد المسافة بين فنزويلا وبين شركائها الآخرين سيجعلها وجهاً لوجه مع الولايات المتحدة من دون أن يكون هناك تأثير لهذه الدول الحليفة لكاراكاس؟
ميغيل جايمس: نحن دولة قد عمدت على القيام والنهوض بالتكامُل وذلك من خلال مدّ الجسور مع دولٍ عديدة. ونحن أنشأنا تحالفات على شتّى الأصعدة: الثقافية، والسياسية، والاقتصادية. وقمنا بالتوقيع على اتفاقات عديدة في ما يتعلّق بالوقود الأحفوري وذلك مع دول كثيرة من العالم، لاسيما مع شركات من الولايات المتحدة التي كانت تهتمّ بإنشاء آليات تجارية مع فنزويلا. وكانت لفنزويلا علاقات دبلوماسية، قطعت فنزويلا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل منذ عقدين، وإن ذلك يُزعج الصهاينة ويُزعج الإمبريالية في شمال أمريكا التي امتعضت من فنزويلا، والتي أكّدت بأن فنزويلا لن تتعايَش مع أية حركة صهيونية. وكان موقفنا واضحاً بتأييد القضية الفلسطينية ودعمها. ونحن ندّدنا منذ عقود طويلة بالانتهاكات والممارسات المختلفة والحروب ضدّ سوريا وضدّ لبنان وضدّ العراق، والاعتداءات المُتواصِلة ضدّ منظّمة الدول المُصدّرة للنفط.
عندما تستمعون إلى فنزويلا وإيران والعراق وليبيا، كلها دول أعضاء في هذه المنظمة، وقد تُشنّ حرب مباشرة على دول أعضاء في هذه المنظّمة. وإن واحدة من الدول الأكثر استهدافاً هي فنزويلا، ولا شكّ.
كمال خلف: لم تُجبنِ، سيّد ميغيل. ماذا يمكن للصين وروسيا والدول الأخرى الحليفة التي تقف الآن في معسكر فنزويلا أن تفعل؟ كيف يمكن أن تخفّف عن فنزويلا هذه الضغوط؟ تساعدها أمام هذه التهديدات؟
ميغيل جايمس: تربط فنزويلا بالصين وروسيا تحالفات هامة عسكرية وسياسية. تذكّروا مواقف البلدين في مجلس أمن الأمم المتحدة، وإنهما من أعضاء ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، وقد أعلنا عن تأييدهما الكامل لفنزويلا. وإن وزارتي الخارجية في هذين البلدين قد ندّدتا بالضَرَر اللاحِق بفنزويلا. وهذا أمر أكّد عليه بوتين بشكلٍ صريح. ونحن نحاول اللجوء إلى كل الآليات المتوافِرة لنا من خلال العلاقات القائمة بين فنزويلا والصين وروسيا، ونسعى إلى عدم انقطاع هذه العلاقات. وإن هذا ما يزعج الولايات المتحدة. فإن بالنسبة إلى بنما، قد فرضت الولايات المتحدة أن تخرج الصين وأن تخرج روسيا، ولم تفلح مع فنزويلا، وهو أمر لن نسمح به. نذكّركم كذلك بأنه لدينا مجموعة من المُقاتلات الأهمّ في أمريكا اللاتينية، وإنها طائرات سوخوي الروسية والتي تمّ استيرادها من الاتحاد الروسي. إن النظام الدفاعي والصواريخ والأسلحة مُسْتورَدة من الصين ومن الاتحاد الروسي، وقد أتيحت أكثر من فرصة لمواجهة الاعتداءات، ونحن لا نشكّ في أنه سوف يحصل دعم مباشر في حال تدخّل عسكري ضدّ بلادنا.
كمال خلف: قبل أن ننتقل للدائرة الثالثة والفاصل، كذلك اليوم الأخبار، أحدث الأخبار تقول بأن الرئيس الروسي صادَق على الاتفاقية الاستراتيجية مع فنزويلا التي كان قد تمّ الاتفاق عليها وكان في زيارات مُتبادلة حولها.
هل هذا يعني شيئاً ما في هذا التوقيت أن يصادِق الرئيس بوتين على هذه الاتفاقية الاستراتيجية مع كاراكاس؟
ميغيل جايمس: المعاني عديدة، منها الدعم أو التعبير عن الدعم السياسي والعسكري لفنزويلا بشكلٍ صريح وواضح. دعماً يقدّمه الاتحاد الروسي الذي تبادلنا معه أكثر من مرة. أذكّركم بأن الاتحاد الروسي أقام علاقات مُقرّبة مع الرئيس تشافيز سابقاً، وواصلت هذه العلاقات مع الرئيس مادورو. وإن الاتحاد الروسي قدّم الدعم الفني لفنزويلا، وقدّم الاتحاد الروسي دعماً مع دول أخرى. وقد قام ممثّلون هامّون، لاسيما وزير الخارجية الروسي لافروف، بأكثر من زيارة إلى أكثر من دولة في المنطقة، وكانت المفاوضات مع الاتحاد الروسي ناجحة، والعلاقات مقرّبة ووطيدة.
كمال خلف: سنتوقّف مع فاصل، مشاهدينا، وضيفي العزيز بعده نكمل في الدائرة الثالثة والأخيرة من دوائر القرار. ابقوا معنا.
كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في دوائر القرار. أعود وأرحّب بضيفي السيّد ميغيل جايمس، الخبير في الجغرافيا السياسية، يطلّ معنا مباشرة من فنزويلا، ونتوجّه مباشرة إلى الدائرة الثالثة وعنوانها: من تشافيز إلى ترامب، جذور العداء الطويل.
أبدأ هذه الدائرة بعرض هذا التقرير الذي يسلّط الضوء على مضمون عنوان هذه الدائرة. نتابع.
تقرير:
منذ أن ارتفعت رايات التحرّر في جبال الأنديز قبل قرنين، كانت فنزويلا رمزاً يتجاوز حدود دولة. كانت نداءً ضدّ الطغيان، وصوتاً يرفض أن يكون تابعاً لإمبراطورية من وراء البحر.
من سيمون بوليفار الذي حمل حُلم أمريكا اللاتينية المستقلة، إلى هوغو تشافيز الذي أيقظ ذاكِرة التحرّر من رماد النفط، ظلّت كاراكاس تمشي في طريق واحد: طريق الكرامة الوطنية في وجه هيمنة الشمال.
منذ مُنتصف القرن العشرين، كانت واشنطن تعدّ فنزويلا بئراً من ذهب أسود في حديقتها الخلفية، تُدار بالسياسة حيناً وبالانقلابات حيناً آخر.
لكن تأميم النفط عام 1976 كان لحظة التمرّد الكبرى، لحظة خرجت فيها فنزويلا من عباءة الشركات الأمريكية لتقول: النفط لنا، والأرض لنا، والسيادة ليست للتفاوض.
حين جاء تشافيز في نهاية القرن العشرين، حمل راية بوليفار من جديد وقالها صريحة في وجه البيت الأبيض: "لا نبيع وطننا في مقابل برميل نفط".
أعاد توزيع الثروة، وفتح أبواب التعليم والصحّة للفقراء، وأغلق أبواب البلاد في وجه الشركات العابِرة للحدود. ومن هنا بدأت المعركة المفتوحة: حِصار، مؤامرات، دعم الانقلابات، ومحاولات لعزل فنزويلا عن محيطها اللاتيني. ومع كل عقوبة، كانت كاراكاس تزداد عناداً. وكلما شدّت واشنطن الخِناق، كانت فنزويلا تبحث عن مُتنفّس في الشرق، حيث يجري بناء عالم مُتمرّد على الأحادية القُطبية.
فنزويلا التي كانت تصدّر النفط لأمريكا باتت تصدّر رسائل عالمية مفادها: لا يمكنكم احتكار الجغرافيا، ولا تملك واشنطن حقذ تقرير مصير العالم.
واليوم، بعد مرور عقود على أول اشتباك نفطي وسياسي بين الطرفين، يعود السؤال ليطرق الأبواب من جديد: هل تغيّر شيء في معادلة القوّة؟ أم أن التاريخ يُعيد نفسه؟ بوليفار يعود في ثوب مادورو، والإمبراطورية ذاتها ترتدي وجوهاً جديدة.
هكذا هي فنزويلا: بلد صغير في الجغرافيا، عظيم في الذاكِرة. يحاصرونه بعقوبات، فيردّ عليهم بعراقة التاريخ. يخنقونه بالنفط، فيتنفّس بالرمزية العالمية لتحرير الإنسانية. فنزويلا كأنها تقول للعالم اليوم: نحن أبناء بوليفار، نولَد من تحت الرماد كلما حاولوا إطفاءنا.
كمال خلف: سيّد ميغيل، من =خلال التقرير، التصعيد الحالي لا يبدو لحظة طارئة في التاريخ، بل تتويجاً لمسار ممتدّ منذ نصف قرن على الأقل.
بهذا المعنى، البُعد الأيديولوجي، إلى أيّ حدّ يلعب دوراً في الأزمات المستمرّة والتوتّرات المستمرّة بين كاراكاس وواشنطن؟ وهل المسألة أيضاً في جوهرها مصالح اقتصادية، جغرافيا سياسية، لكننا أمام اشتراكية بوليفارية في مواجهة ليبرالية أمريكية مُتوحّشة؟ هل هذا هو جوهر الصِراع وليس فقط الاقتصاد والجغرافيا والتحالفات؟
ميغيل جايمس: لا شكّ بأن في فنزويلا حكومة اعتنقت الفكر الاشتراكي البوليفاري، الذي يفترض أن العالم ينبغي أن يكون مُتعدّد الأقطاب، يشارك فيه كل دول العالم. نحن نعارض السياسة الإمبريالية التي تنتهجها الولايات المتحدة. وإن هذا النضال استمرّ منذ قرون. وإن بلادنا قد قضت على أكثر من إمبراطورية. ولطالما دافعنا عن أنفسنا، واعتمدنا نهجاً سياسياً ديمقراطياً تكامُلياً. ولكن نحن نواجه تحدّيات أخرى كتلك التحدّيات التي تواجه الكوكب. نحن في عالمٍ مُتعدّد الأقطاب، وحيث ينبغي أن تحترم سيادتنا وأفكارنا. نحن لا نتمسّك بأن يعتنق الجميع أفكارنا ونهجنا، ولكن كدولةٍ سيّدةٍ وحرةٍ ومستقلّة، نودّ أن ندافع عن هذا الفكر وعن هذا الموقف.
كمال خلف: اطّلعنا أيضاً، سيّد ميغيل، على تقارير تتحدّث عن محاولات تجنيد طيّارين مدنيين يستخدمون الطائرة الرئاسية لاختطاف أو لاعتقال مادورو، أيضاً تنظيم محاولات اغتيال للرئيس مادورو.
باعتقادك، سيّد ميغال، التركيز على شخصية الرئيس، غياب مادورو، اعتقاله أو اغتياله، أو كما تخطّط الاستخبارات الأمريكية الآن، هل سيُنهي المسألة؟ سيحسمها لصالح الولايات المتحدة الأمريكية؟ أم أن غياب الرئيس لا يعني أن النهج انتهى؟
ميغيل جايمس: إن الولايات المتحدة مهووسة بشخص الرئيس مادورو لأنه لا يساعدها في نواياها المُهيمنة. إن شخصية مادورو تمثّل توازناً داخلياً، وتمثّل توازناً عاماً في المنطقة التي قد تتحوّل إلى منطقة منعدمة الاستقرار في حال قام المُعتدي عملياً على هذه الشخصية الهامة. بُذِلَت محاولات كثيرة، وحاولت الولايات المتحدة أكثر من مرة أن تطال الرئيس مادورو، لكننا نعرف كيف ندافع عن أنفسنا، ولدينا أصدقاء في العالم قد حذّرونا وساعدونا عندما عرفوا عن أيّة نيّة من الولايات المتحدة لينالوا إذاً من هذه الشخصية الرئاسية الهامة.
كمال خلف: انتهت الحلقة، لكن نتابع هذا التصعيد ضدّ فنزويلا، التصعيد الأمريكي والأهداف الأمريكية في فنزويلا.
شكراً، سيّد ميغيل جايمس، الخبير في الجغرافيا السياسية للنفط، كنت معنا مباشرة من فنزويلا. أشكرك جزيل الشكر على مُرافقتنا في هذه الحلقة.
مشاهدينا، دوائر القرار لهذا الأسبوع انتهى.