قمة بودابست: صفقة العاصمتين أم بداية تفكك المنظومة الغربية؟
نص الحلقة
كمال خلف: سلام الله عليكم مشاهدينا.
في قلب أوروبا وفي عاصمةٍ تتأرجَح بين الشرق والغرب، تستعدّ لعَقْدِ قِمّةٍ قد تُعيد تشكيل خرائط القوّة في العالم.
ترامب وبوتين رجلان يمثّلان قُطبين يتصارعان منذ عقود، يجلسان على طاولةٍ واحدةٍ في لحظةٍ تبدو هادئة على السطح، لكنها مضطَرِبة في العُمق. القمّة المُرْتَقبة في بودابست ليست مجرّد لقاء رسمي، بل اختبار للخيارات الكبرى: من أوكرانيا إلى غرب آسيا، ومن الناتو إلى القُطب الشمالي، ومن موسكو إلى بكين إلى عواصم القرار العالمي.
كل طرف يحمل أجندته، وكل مشهد خلف الكواليس يكتب قصّة عن النفوذ والمصالح والتوازُنات العالمية.
في هذه الحلقة، وعبر ثلاث دوائر، نبحث في دوافِع القمّة وظروفها والملفّات العالِقة المطروحة على الطاولة، وارتداداتها على أوروبا والصين والشرق الأوسط وبقيّة القوى الكبرى.
هل نحن أمام صفقة العاصمتين، أم أمام بداية تفكّك المنظومة الغربية التقليدية أو الشرقية الصاعِدة؟
حيّاكم الله.
كمال خلف: يرافقنا في هذه الحلقة، مشاهدينا، في دوائرنا الثلاث، الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصِراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خُبراء الأمم المتحدة، يطلّ معنا من واشنطن.
دكتور محمد، حيّاك الله، وأرحّب بك في "دوائر القرار". سنكون معك عبر هذه الدوائر بعناوينها، وسأبدأ من العنوان الأول للدائرة الأولى: "من مواجهة إلى مُصافحة، لماذا الآن؟"
سنبدأ مشاهدينا هذه الدائرة بعرضِ هذا التقرير الذي نتحدّث فيه عن اللحظة الراهِنة: ما هي الظروف؟ ما هو المناخ؟ الأرضيّة التي هيّأت للاتفاق على عَقْدِ هذه القمّة؟ نتابع التقرير، وبعدها نطرح الأسئلة.
تقرير:
في قلب التحوّلات الكبرى، تخرج قمّة بودابست كأنها استراحة قصيرة في سباقٍ طويلٍ بين واشنطن وموسكو. قمّة تجمع رجلين يختصران مرحلة بأكملها من اضطراب العالم. ترامب العائد بثقافة الصفقات، وبوتين المُثبّت حضوره في منطق الميدان. لكن السؤال ليس في اللقاء ذاته، بل في الظرف الذي أنضج موعده. فالعالم يقف على تخوم إعادة توزيع القوّة: حرب أوكرانيا تتباطأ بلا حَسْم، أوروبا تبحث عن أمنٍ بلا قيادة، الصين تتمدّد بهدوء، والشرق الأوسط يتحوّل إلى مسرح تجارب دبلوماسية جديدة بعد اتفاق غزّة الذي حمل توقيع ترامب وفتح له أبواب الدخول إلى الملفّات الكبرى.
في الخلفيّة، مشهد لا يخلو من رسائل موازية: زيارة الرجل الأهمّ في منظومة الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى موسكو، حامِلاً رسالة من أعلى هرم السلطة في إيران، السيّد خامنئي، بالتزامُن مع اتصالٍ مطوّل بين بوتين وترامب رَسَم الخطوط الأولى لطريق بودابست.
حركة تبدو مُتباعِدة في ظاهرها، لكنها تتقاطع عند حاجة النظام الدولي إلى نافذةِ تهدئة تحفظ لكل لاعبٍ مكاسبه.
أما اختيار بودابست فليس تفصيلاً. فهنغاريا، العضو في الناتو والجارة المُتفهّمة لروسيا، تمثّل الوسط المثالي بين العاصمتين المُتنازعتين. نصفها في الغرب ونَبَضِها في الشرق. هنا تحديداً أراد الطرفان أن يقولا للعالم إن لغة الصِدام يمكن أن تتراجع أمام براغماتيّة التوازُن، وإن التفاوض قد يعود من داخل القارّة الأوروبية لا من هوامشها. إنها لحظة مفصلية تُرسَم فيها خرائط جديدة لا بمعارك الدبّابات، بل بمُصافحات محسوبة.
قمّة تطرح السؤال الأعمق: هل هي بداية تسوية كبرى تعيد ضَبْط النظام الدولي، أم فصل جديد في لعبة القوى حيث تُبدَّل الأدوات وتبقى الأهداف هي ذاتها؟
كمال خلف: دكتور محمد، التقرير طرح العديد من التساؤلات. سأبدأ بما حمله عنوان هذه الدائرة: لماذا الآن؟ البيئة والمناخ السياسي والجيوسياسي أيضاً الذي جعل موسكو وواشنطن تصلان إلى لحظةٍ لا بدّ من عَقْد هذه القمّة؟
محمد الشرقاوي: لعدّة اعتبارات. إن أَمَدَ الحرب الأوكرانية قد طال، إن هناك تعثّرًا في قمّة ألاسكا، إن هناك عملية صعبة في التوصّل إلى صيغةٍ أوّليةٍ لتوازُن قوى، وهناك أسباب تحول دون ذلك. لأن الجميع أو أغلبنا يتخيّل أننا نعيش مجدّدًا قمّة ريغان وغورباتشوف في ريكيافيك في آيسلندا. لكن القمّة الحالية في بودابست في المجر بين بوتين وترامب تحمل الكثير من الاعتبارات الضمنية. ريغان وغورباتشوف كانا يتحرّكان ويتفاوضان من باب القوّة أو من باب الضعف لهذا الطرف أو ذاك، ضمن ما كنا نؤمن به: إن هناك ثُنائية قُطبية فرضت نفسها خلال الحرب الباردة.
الآن، بعد نحو 35 عامًا على انتهاء هذه الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفياتي، لم تعد هي نفس الثنائية القُطبية. لذلك نجد الآن أنه وإنْ اقترب بوتين وترامب الآن، إلا أن مجموعة من القضايا تدفعهما إلى الاختلاف أكثر من الاتفاق، وتضيف أن الثنائية القُطبية الآن مُتعثّرة: لا هي أحاديّة ولا هي ثنائية ولا هي ثلاثية، بل هناك مشروع تعدّدية ينتظر استحضار الدور الصيني.
كمال خلف: مشروع تعدّدية لم نطلّ عليه بعد؟
محمد الشرقاوي: لا نستطيع أن نمضي قُدُمًا باتجاهه لأننا لم نحسم بعد قواعد اللعبة، قواعد تأسيس ميزان توازُن قوى جديد. لذلك الآن قد يبدو ترامب قويًّا، قد يبدو بوتين قويًّا، وهناك الأَنْفة السياسية بين الرجلين. بمعنى أن العالم لا يُخْتَزَل الآن في إرادة الكرملين أو إرادة البيت الأبيض، وإنما ينبغي أن ننظر إلى القوى العظمى الصاعدة. وعلى الأقل ترى أن هناك أربعة محاور لا تُحْسِن التنسيق ولم تصل بعد إلى التوافقات المنشودة: هناك المحور الأمريكي الذي الآن ينفصل عن المحور الأوروبي، أوروبا تنزع لذاتها؛ هناك المحور الصيني الذي أحيانًا يقف إلى المحور الروسي وأحيانًا يختار أن لا يشكل حلفًا عسكريًّا مع الروسي. إذاً، المحور الصيني له حساباته الدقيقة، سواء في استخدام القوّة الصُلبة، كما لاحظنا في الاستعراض العسكري الأخير وكان مُفاجئًا لدول الغرب، وهناك القوّة والتكنولوجيا العسكرية الصينية التي فاقت التوقّعات.
إذاً، على الأقل أربعة محاور. يبدو أن الكرملين والبيت الأبيض يقودان أو يعتقدان أنهما يقودان مسيرة التفاعُل بين المحاور الأربعة. هم لا يستحضران المحور الصيني بما يكفي، لا يستحضران المحور الأوروبي بنفس الأهمية. إذاً، أرى أنهما يتحرّكان في منطقة يستطيعان فقط السيطرة على جزءٍ منها ولا يستطيعان رَسْم الخارطة بكل ارتياح. بمعنى أن الصينيين لا يقدّمون لبوتين كل الصلاحيات، والأوروبيون كذلك لا يعوّلون على ترامب أيضًا.
كمال خلف: سنتحدّث عن ذلك أيضًا في الدائرة الثانية التي سوف نفتح فيها الملفات التي يمكن أن تكون على الطاولة.
لكن دكتور، انطلاقًا مما تقول: نحن لا نتحدّث إذاً عن قمّةٍ مُرْتَقَبة محصورة بأوكرانيا، لأن تركيز ترامب على أوكرانيا يقول: "سوف أنهي الحرب التاسعة". ما هي الثماني حروب الأخرى التي أغلقها؟ لا أحد يعرف. لكن يقول: "أنا سأغلق الحرب التاسعة". لكن هذا يقودنا لسؤال: القمّة ستكون ضمن إطار أوكرانيا والحرب في أوكرانيا، أم نتحدّث عن ملفات عالمية؟ حتى الحديث عن حرب أوكرانيا سوف يقود إليها بالضرورة؟
محمد الشرقاوي: حرب أوكرانيا هي فرع من أصل، هي جزء من كل. وعندما يجتمع ترامب وبوتين على أساس أنهما يوصلان لتسوية مرضية للروس والأوكرانيين وللأوروبيين في المقام الأول، هم ضمنيًّا لا يستطيعان إحراز أيّ تقدّم في هذا الاتجاه. لماذا؟
لأن هناك الخَصْم، المشكلة الأصلية، هي أن بوتين منذ انهيار الاتحاد السوفياتي توعّد بأن يُعيد أُنْفَة القومية الروسية، يُعيد قيام الإمبراطورية الروسية على أساس واحد وهو أن ينجح في ردّ الزحف الذي يقوم به حلف شمال الأطلسي في شرق القارّة الأوروبية.
إذاً، أنا أرى أن الحرب الأوكرانية ذاتها هي نتيجة للخلاف الأصلي. ونتذكّر أن في خطابه الشهير في مُنتدى الأمن والتعاون في أوروبا عام 2007 أوضح ما يريده من الغرب، ابتعدوا عن حدود روسيا بعيدًا. والأكثر من هذا، لاحظنا في الأسابيع الأخيرة أن المُناوشات وبعض التفجيرات وبعض الصواريخ لم تقتصر على الأراضي الأوكرانية فحسب، بل اتّجهت إلى بولندا وإلى ألمانيا. إذاً، هو يتوعّد بأن على هذا الغرب وعلى حلف شمال الأطلسي في المقام الأول أن يُعيد حساباته، وأن المسألة ليست استمرارًا لما حقّقه الغرب عند انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين. يريد الآن أن يقول للغرب نحن عائدون باتجاه الغرب. الغريب إذا كان الحلف يدفع باتجاه الشرق، روسيا وبوتين تدفع باتجاه الغرب. إذاً، رقعة الشطرنج التي تعاني الأمرّين هي منطقة شرق أوروبا، حتى ألمانيا وبولندا وبقيّة المنطقة.
كمال خلف: أيضًا هذه القمّة =طبعًا، ونحن نتحدّث الآن دكتور، في حديث عن تأجيل: روسيا اليوم، الكرملين قال لا، التحضير لهذه القمّة يجري على قَدَمٍ وساق، وإن التقارير الإعلامية التي تقول عن تأجيل هذه القمّة غير واردة.
لكن أيضًا، من ضمن العوامل أو البيئة السياسية التي نتحدّث عنها التي أوصلت إلى هذه النقطة: اتفاق غزّة وخطّة دونالد ترامب. يشعر الرئيس الأمريكي بأنه أنجز في غزّة، وبالتالي هذا يمكن البناء عليه للتقدّم خطوة نحو ملفات أخرى ومنها أوكرانيا.
دكتور، أولًا أسألك عن مدى زُخم اتفاق غزّة وتأثيره على القمّة، أيضًا تعامُل الإدارة الأمريكية مع هذا الملف وكأنه إنجاز فعلي. هل من المُبَكّر أن نقول بأن خطّة ترامب في غزّة قد نجحت؟ هو يتعامل أن الأمور حُسِمت، وأنا الآن صانِع سلام وأتوجّه نحو أزمة أخرى لحلّها مع روسيا؟
محمد الشرقاوي: قبل الردّ على سؤالك في ما يتعلّق بخطّة غزّة، دعني أضع مُقارنة مُخْتَصَرة أو مُقْتَضَبة بين قمّة بودابست المُرتقبة وقمّة ألاسكا التي تحدّثت عنها في البداية.
عندما ذهب بوتين وترامب إلى ألاسكا، كان كل منهما يعتقد أنه يستطيع أن يُناور، وأنه هو المُفاوِض الأكثر شراسة، وهو الذي سيُسجّل نقاطًا لصالحه: لصالح الكرملين بالنسبة لبوتين، أو لصالح الولايات المتحدة بالنسبة لترامب.
لكن يبدو أن القراءة الآن بالنسبة لقمّة بودابست تختلف تمامًا عمّا اعتبرته أنا شخصيًّا نوعًا من =المُغامرة في ألاسكا. إن كل واحد يأتي بتلك الرمزية العالية. يبدو أن بوتين في الكرملين أيقن أنه الآن لا يحتاج لرمزيّات، ولا يحتاج لدَغْدَغَة مشاعر الروس، ولا للظهور أمام ترامب فقط للظهور أنه يوازيه أو يساويه أو يقف معه كتفًا إلى كتف. الآن بودابست فيها حسابات أكثر.
والآن يبدو أن بوتين يريد أن يكون أكثر براغماتية من ترامب. لماذا؟ لأنه يريد أن يضع ترامب في خانةٍ إما أن نتّفق أو لا نتّفق على قضية أوكرانيا، على قضية الحلف، وعلى قضية العقوبات والأمور الأخرى المطروحة والعالِقة منذ سنوات.
لكن في المقابل، بالنسبة لترامب: ترامب هو يذهب إلى أية قمة، إلى أيّ اجتماع، لعلّ وعسى يستثمر فيه ويعود بما يستطيع أن يعود به. وهنا أربط المسألة أيضًا مع خطّة غزّة.
الدافِع الأساسي الذي جعل ترامب يضغط على الأطراف جميعها بضرورة القبول بالخطّة أنه كان متمسّكًا بإحراز أيّ تقدّم ولو بالحدّ الأدنى.
وأنا من الذين يقيسون الأمور بمخرجاتها لا بمدخلاتها، بمعنى: أنظر وأتأمّل في البنود العشرين للخطّة، وأسأل نفسي: ما الذي تحقّق ويتحقّق الآن، وما الذي لا يتحقّق وربما لن يتحقّق حتى في المستقبل؟
أرى أن أقصى سقف لما هو قابل للتطبيق هو أمران:
الأمر الأول هو التوسّط الأمريكي في صفقة تبادُل الرهائن والأسرى، وهي الآن تشهد بعض التعثّرات.
والمسألة الثانية هي أيضًا الوساطة الأمريكية في ما يمكن اعتباره هدنة، وإن كنا لا نستطيع الجَزْم أن هدنة دائمة هي هدنة مفتوحة. لا شكّ، لكن قد ينتابها القصف والقصف المُتبادَل.
لكن إذا انتقلنا إلى بقيّة البنود الـ18: مسألة تجريد حماس من السلاح، أو إلغاء وجود حماس استراتيجيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، أيضًا عدم إدخال أيّ دور فلسطيني سواء بالنسبة لمنظّمة التحرير أو لمنظّمة فتح، بمعنى كل الفصائل الفلسطينية لن يكون لها دور في إدارة قطاع غزّة في المستقبل.
أرى كل هذه البنود الـ18 عالِقة في الهواء، ولا أرى أن هناك...
كمال خلف: وأيضًا ليس هناك أفق سياسي. 20 بندًا، لكن من دون نتيجة نهائية. ليس هناك أفق سياسي حول تقرير مصير الشعب الفلسطيني: حلّ الدولتين، حلّ نهائي لهذه المشكلة.
لكن دكتور، قد يرى ترامب بأن ما يعتبره نجاحًا في الشرق الأوسط يعطيه شرعية تفاوضية في التعامُل مع روسيا؟
محمد الشرقاوي: المسألة ليست بالمقاييس الخطابية، كما تفضّلت أنت قبل قليل. يحقّ لترامب في الأمم المتحدة وفي بقيّة المنابر أن يدّعي أنه هو يُحْرِز انتصارات دبلوماسية واحدًا تلو الآخر، أنه أنهى ثماني حروب، والآن سينهي الحرب التاسعة.
هذه خطّة ترامب. أنا درست ترامب منذ الخامس عشر من يونيو عام 2015 لعدّة سنوات، وأؤكّد كنت آمل أن أبلور "الترامبية" كمشروع فلسفة سياسية في العلاقات الدولية المُعاصِرة. وبعد 2020 أيقنت أنه لا يقدّم لنا ما يمكن أن يكون الحدّ الأدنى لتأسيس هذه الفلسفة السياسية.
إذاً، الرجل يكتفي بأمورٍ أوّلية، بأمورٍ رمزية. بل الأكثر من هذا، سواء تعلّق الأمر بالصِراع حول غزّة أو الصِراع حول أوكرانيا أو الصِراع الآن الذي ينفتح على الخلاف بين المغرب والجزائر، يريد الدخول بوساطةٍ ويعتقد أنه سيُنهي الخلاف الجزائري المغربي في 60 يومًا.
هذه الأمور كلها نوع من الإرساليات أو نوع من الإعلانات السياسية. ما هي الجدوى؟
أقول لك السبب: هو يُكْثِر من جدول الأعمال ويراكم فيه الكثير من الملفات لسبب بسيط: الرجل يؤمِن بأنه هو أعظم سياسي في العالم، وأن على كل القنوات الإعلامية في العالم أن تشتغل على خطاباته وأفكاره وفلسفته وأحلامه صباح مساء.
بمعنى: هو لا يريد أن يبتعد عن الأضواء.
إذاً، ينبغي أن نقيس الآن الفرق بين الصورة الإعلامية والعَظَمَة الدبلوماسية التي يرسمها ترامب ويرسمها واتكوف وكوشنر وبقيّة المُستشارين في البيت الأبيض.
كمال خلف: وبين الواقع الموضوعي؟
محمد الشرقاوي: بالضبط. والأكثر من هذا، قال إنه خلال الحملة الانتخابية إنه سيُنهي حرب غزّة وحرب أوكرانيا خلال يومين. الآن نحن في الشهر العاشر لدخوله البيت الأبيض، لا زلنا في حال انتظار، ولا زالت حرب أوكرانيا وحرب غزّة تتعثّر أمام عينيه بشكلٍ يومي.
كمال خلف: دكتور، في هذه الدائرة بقي عندي نقطة واحدة قبل الانتقال للدائرة الثانية، وهي دلالة المكان. عندما نتحدّث عن بودابست، عن المجر، هنغاريا: تحدّث طبعًا عن دولةٍ في السياسة ليست مع الأوروبيين تمامًا في إجماعهم ضدّ روسيا، وبنفس الوقت نتحدّث عن دولة الجغرافيا ليس لها حدود إلا مع الناتو.
بوتين عندما نظر إلى الخريطة، بوتين إذا أراد أن يأتي إلى بودابست عليه أن يمرّ في منطقة الناتو حصراً، وتعرف أنت في مذكّرة من الجنائية الدولية، المحكمة الجنائية الدولية، وفي حظر طيران أيضًا دول أوروبية.
والمجر في قلب أوروبا. إذا جاء بوتين من روسيا إلى بيلاروسيا، سيمرّ في أوكرانيا، وهذا طبعًا غير مُتاح.
إذا جاء من روسيا إلى بيلاروسيا إلى بولندا، سلوفاكيا، أيضًا هذا غير مُتاح في التوتّرات مع بولندا.
تركيا، المتوسّط: يجب أن يمرّ عبر الجبل الأسود، صربيا. هذا مسار أيضًا، لكن ربما يكون مسارًا طويلًا جدًّا، لا أعرف كم يستغرق من الوقت. أو عبر البحر الأسود، رومانيا.
هذه الاحتمالات لوصول بوتين، لكن كل هذه الاحتمالات غير مُشجّعة للرئيس الروسي الذي، كما ذكرت، في مذكّرة الجنائية الدولية وفي حَظْر الطيران الأوروبي.
لماذا اختير هذا المكان، دكتور؟ ودلالة أن تكون القمّة في قلب أوروبا؟
محمد الشرقاوي: أنت تضع فرضية في غاية الأهمية: هي الجغرافيا السياسية التي ستستضيف القمّة، وكيف الوصول إليها.
يبدو أن المجر لها وضع له الكثير من المرونة مُقارنة مع الدول الأخرى في الاتحاد الأوروبي. هي وإن كانت في شرق أوروبا، إلا أنها ليست بتلك الأوروبية من حيث الالتزام.
أنت ذكرت قضية: من أين يأتي بوتين من روسيا؟ وأنا أيضًا أذكّرك وأذكّر السادة المشاهدين أيضًا كيف مرّ نتنياهو عبر المجر إلى الولايات المتحدة.
المسألة: لا أرى هناك التزام الدول الـ27 في الاتحاد الأوروبي بمذكّرات الاعتقال سواء ضدّ بوتين أو ضدّ نتنياهو. غالانت، لا خلاف على هذا.
لكن الوضع السياسي، القيادة في المجر أحيانًا تلوي ذراع هذا الالتزام. فبالتالي سيحضر.
أعتقد أن الروس وافقوا على بودابست ودقّقوا في هذه الجغرافيا السياسية أكثر من ترامب. ترامب يمكن أن يحضر إلى جنيف أو يحضر إلى لندن أو يحضر إلى عاصمةٍ أخرى.
الاختيار سليم من حيث أن بوتين سيكون مُرتاحًا مع ذاته وهو يحضر إلى بودابست.
لكن هذه الإجراءات ينبغي أن لا نضخّمها أكثر مما يحدث خلال اللقاء. وهنا ينبغي أن نهتمّ: إلى أي حدّ؟ هل قمّة بودابست هذه أرض أوروبية؟ هل سيحضر فيها الهمّ الأوروبي؟ وهل ستحضر الاعتراضات الأوروبية لا على بوتين فحسب، حتى على ترامب؟
إذاً، أرى أنها قمّة ثنائية، ولكنها في حقيقة الأمر تغطيها الظِلال الأوروبية، خاصة في ما يتقاطع بين زعامة الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي، وأيضًا اعتراض بوتين في الكرملين على سياسة توسّعية في نظري لهذا الحلف.
إذاً، هل تنجح بودابست في أن تكون أوروبية بمعنى استحضار القضايا والتحفّظات الأوروبية، أم أن تكون فقط...
كمال خلف: سنتحدّث عن هذا دكتور في الدائرة الثانية، التي سوف نفتح فيها ملفّين. تحدّثت عن أوروبا، إنها ستكون حاضِرة. الصين لا بدّ من أن تكون حاضرة، كما ذكرت حضرتك قبل قليل، خاصة العلاقة التي تجمع الصين وروسيا ودولاً أخرى تشكّل نافذة أو ما يشبه المعسكر الشرقي إنْ صحّ التعبير حاليًّا؟
محمد الشرقاوي: محور الشرق...
كمال خلف: محور الشرق. سأنتقل للدائرة الثانية وعنوانها: "ملفّات على طاولة القمّة: من أوكرانيا إلى آسيا وما بعدها".
مشاهدينا، سنطلّ من خلال هذه الدائرة على أبرز الملفّات التي يمكن أن تكون على طاولة هذه القمّة.
لخصّناها، سنستعرض هذا المُلخّص ثم نناقشه.
تقرير:
ملفّات على طاولة القمّة:
الملفّات العسكرية والأمنية: الحرب في أوكرانيا، خطوط الجبهة ورَسْم تفاهُمات نهاية الحرب. الناتو والأمن الأوروبي: توسّع الناتو، قواعد ونَشْر القوات، الضمانات الأمنية لموسكو. آسيا الوسطى والقوقاز: مناطق النفوذ، القواعد العسكرية، الممرّات. الشرق الأوسط وسوريا: استمرار النفوذ العسكري الروسي في مقابل الحضور الأمريكي العسكري والسياسي. القُطب الشمالي: السيطرة على الممرّات البحرية الجديدة، الثروات الطبيعية، التعاون العسكري أو التفاهُم على مناطق النفوذ.
الملفّات السياسية: إيران والبرنامج النووي، الدور الروسي في دعم الاتفاق النووي، احتمالات التفاهُم على ضَبْط التصعيد الأمريكي-الإيراني، دور موسكو وواشنطن في إعادة التوازُن الإقليمي.
علاقة القمّة بالاتحاد الأوروبي، دور ألمانيا وفرنسا في أيّ تفاهم أمريكي-روسي، التَبِعات المُحْتَمَلة لأيّ تفاهم على ملفّات غزّة ومستقبل القضية الفلسطينية.
الملفّات الاقتصادية والطاقة: العقوبات الاقتصادية، رَفْع جزئي أو تبادُل تسهيلات تجارية، تبعات على الاقتصاد الروسي والأوروبي. الطاقة العالمية: النفط والغاز، خطوط الأنابيب، اتفاقيات الغاز الروسي إلى أوروبا في مقابل تخفيف العقوبات. الاستثمارات والمُبادلات التجارية: مشاريع في آسيا الوسطى، أفريقيا، والممرّات البحرية الجديدة.
الملفّات التكنولوجية: العلاقات بالصين، التنسيق أو التنافُس على مشاريع البنية التحتية، النفوذ في آسيا، سباق التكنولوجيا العسكرية والمدنية. الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، وإمكانية تبادُل الضمانات وتجميد الهجمات الإلكترونية ومنع تصعيد الأزمات التكنولوجية.
كمال خلف: دكتور، ملفّات عديدة ومُتداخِلة، لكن اسمح لي أبدأ من حيث انتهينا في النقاش قبل قليل، عندما سمّيته "محور الشرق"، وبالمقابل لدينا المعسكر الغربي الذي مظلّته حلف الناتو.
هل تعتقد أن هكذا قمّة قد تؤسّس لانفراط المعسكر الغربي، خاصة وأنك تحدّثت عن نوعٍ من التباعُد بين أوروبا والولايات المتحدة، مقابل فَرْمَلة صعود محور الشرق؟
محمد الشرقاوي: هذه الموضوعات المُحْتَملة أن يناقشها ترامب وبوتين في بودابست تتوقّف أساسًا على نقطةٍ محورية: هل يستطيع الرجلان تسوية الوضع الآن في العلاقة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا؟
أرى أن هذا هو المفتاح: إما أن تنطلق الأمور إلى القضايا الأخرى، أو ربما تقف الأزمة أو تقف القمّة عند أزمة عدم التوصّل إلى تسوية.
إذاً، ينبغي أن نعتبر أن الحلّ الذهبي أو ما هو أقصى ما يمكن ترقّبه في القمّة أن نصل إلى توافقٍ أمريكي-روسي أيضًا بتأييدٍ أو بموافقةٍ أوروبية: أين ينتهي نفوذ حلف شمال الأطلسي؟
وعليه يبدأ البحث في السُبُل الكفيلة بتسوية الحرب الأوكرانية.
وترامب كما نعلم لا يمانع في أن تبقى السيادة الروسية على الأقاليم الأربع، فضلاً عن جزيرة القرم التي تمّ الاستيلاء عليها سنة 2014.
إذاً، هناك تساهُل ومرونة من قِبَل البيت الأبيض، لكن الأوروبيين لا يؤيّدون هذه الفكرة.
=وهذا ما يُفسّر أنه حتى هذه اللحظة لا زال الدعم الأوروبي على أشدهّ لزيلينسكي ونظامه في كييف.
بعد ذلك، نأتي: إذا نجحت المسألة أيضًا في تسوية نظريّة على الأقل لهدنة، لوقف إطلاق النار بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية، ننتقل ربما إلى موضوع: كيف يُرفع أو كيف يتزعّم ترامب الحملة من أجل رفع العقوبات الأمريكية والدولية على نظام الكرملين؟
ثم تتفرّع الأمور رويدًا رويدًا إلى القضية الأخرى.
أودّ فقط العودة إلى قضية المحاور، وكيف أراها الآن تتموّج وتتأرجح بين موازين قوى غير مُستقرّة إلى حدّ الآن.
هناك محور الشرق الذي أعتبره هو الآن ما يحرّك العلاقات الدولية أكثر من أيّ محور آخر.
بمعنى: محور الشرق ليس فقط في البُعد العسكري والقوّة الصُلبة للصين ولروسيا، ولكن في مسألة جديدة هي أهمية الاعتماد على الاقتصاد السياسي.
إذاً، محور الشرق اقتصاد سياسي من خلال "بريكس بلس"، سيصل عدد أعضائها إلى 24 دولة العام المقبل.
إذاً، نصف أو أكثر من نصف رأس المال ونصف التجارة الدولية ستنحو منحى بكين ومنحى نيودلهي ومنحى الفلبين والدول الأخرى أكثر من ارتباطها بأوروبا والولايات المتحدة.
في المقابل، الآن هناك نوع من الشَرْخ الواضح الآن في العلاقة الأطلسية. الأوروبيون أصبحوا أكثر ثقة بضرورة البحث عن ذاتهم في ما يتعلّق بالبُعد الاستراتيجي.
في عام 2017 بدأوا ما سُمّي باتفاقية الدفاع الشامل، خصّصوا لها ميزانية 5 مليارات يورو للبحث في كيف يقيمون منظومة تكنولوجية عسكرية أوروبية تستقلّ وتبتعد عن الحاضِنة الأمريكية.
لكن في المقابل أيضًا، من الناحية العسكرية لا تزال التكنولوجيا الأمريكية مُتقدّمة، وهناك دول أوروبية تحتاج للقواعد العسكرية كألمانيا وكبولندا، ولا تزال أيضًا العلاقة البريطانية-الأمريكية تدفع باتجاه الحفاظ على الأمور كما هي وليس للانسلاخ.
كمال خلف: في منطق الصفقات الذي يؤمِن به دونالد ترامب، وانطلاقًا من الكلام الذي تفضّلت به حضرتك، هل تعتقد أن دونالد ترامب، الأمريكيون، يفكّرون في هذه اللحظة بأنه يمكن أن نتنازل لروسيا في شرق أوروبا؟
كلمة السرّ الآن بشكلٍ واضح: دونباس. التخلّي عن دونباس مقابل أن نستطيع أن نُحْدِث نوعًا من الانفصام، الفصل بين روسيا والصين، على اعتبار أن الهدف أو التحدّي الاستراتيجي هو الصين وليس روسيا.
وكيف سينظر الأوروبيون؟ سنتحدّث في الدائرة الثالثة عن ردود الأفعال، لكن هذه الصفقة ستكون على حساب مَن؟ الصين؟ الأوروبيين؟
وهل فعلاً يفكّر دونالد ترامب في هذه اللحظة بصفقةٍ كهذه؟
محمد الشرقاوي: مآل السيادة الأوكرانية في المحصّلة النهائية على ما ينبغي أو ما يمكن القبول به إزاء الطموحات الروسية، هذا يتوقّف على جدليّة مفتوحة قائمة الآن.
نلاحظ، وأبني تحليلي على جدليّة سابقة: لاحظنا بعد اجتماع الجمعة، اجتماع القمّة في ألسكا يوم الجمعة بين بوتين وترامب، ماذا حدث؟
تحرّكت الهواتف الحمر والخضر بكل الألوان وبكل الأجراس، وتمّ عقد اجتماع طارئ في البيت الأبيض بين مجموعة من القادة الأوروبيين، بمن فيهم رئيسة المفوضية الأوروبية وعدد من رؤساء وزراء بريطانيا والرئيس الفرنسي، والكل جاء إلى البيت الأبيض للتأكيد على أن ما يقبل به ترامب في أية مناسبة مع الكرملين لا ينقلب على مصلحة الأوروبي.
لذلك أقول إن هذه الجدليّة لا تزال قائمة. بمعنى أن هناك مرونة عند ترامب في التفاوض، لكن عليه ومن المُحتمّ عليه أن يراعي أيضًا التحفّظات والشروط الأوروبية.
لذلك أرى أن مجال المناورة قرين هذه المرة عند ترامب، لأن قمّة بودابست هي غير المناخ الحر أو البيئة الحرّة التي كان يتحرّك فيها ترامب لجسّ النبض مع بوتين.
إذاً، يمكن باختصار أن نرى أن هناك - ولا أريد أن أستبق المحور الثالث - الدور الأوروبي يحضر باستمرار، لعلّه القاسَم المشترك الذي سيُصاحبنا قبل وخلال وحتى بعد قمّة بودابست.
كمال خلف: بعد القمّة؟
محمد الشرقاوي: بالضبط.
كمال خلف: سأذهب للدائرة الثالثة، لكن سأتوقّف مع فاصل قصير، مشاهدينا. بعده نفتح الدائرة الثالثة والأخيرة في حلقة اليوم.
كمال خلف: تحيّة من جديد، مشاهدينا، في "دوائر القرار". أعود وأرحّب بالدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصِراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة، يطلّ معنا من واشنطن.
مشاهدينا، الدائرة الثالثة عنوانها: "ارتدادات بودابست المُحْتَملة في قلب أوروبا والصين ومنطقتنا هنا".
سنطرح في هذه الدائرة ورقة الأسئلة التي اعتمدناها في بعض الحلقات التي تلخّص الدائرة، وبعض الأسئلة يُجيب عليها ضيفنا طبعًا بشكل مُخْتَصر ومُتتابِع حتى نغطّي كل هذه التساؤلات.
الارتدادات وموقف الأطراف الأخرى:
ورقة الأسئلة:
السؤال الأول: الموقف الأوروبي، هل من المُحْتمل أن يظهر تصدّع بين الدول الأوروبية؟ مَن يرى القمّة فرصة للتفاهم مع روسيا، وآخر يراها تهديدًا للأمن الجماعي؟
هل القمّة تثير قلق الصين على مصالحها في آسيا وتباعُد بينها وبين موسكو؟
هل تؤثّر القمّة في إعادة ترتيب النفوذ في الشرق الأوسط؟
وهل تدفع المنطقة نحو تسويات جزئية أو تسوية شاملة؟
هل تنعكس نتائج القمّة على سياسات دول صغيرة منزوعة النفوذ تقع بين الكبار؟
هل هناك إشارات على أن الأطراف تحاول استباق النتائج بتحرّكات دبلوماسية قبل القمّة؟
إذًا هذه ورقة الأسئلة، دكتور محمد. سنحاول الإجابة عليها، أرجو الاختصار لأنه سأطرحها بشكلٍ مُتتابِع.
أولًا: الموقف الأوروبي، وجيّد =أنك ركّزت عليه في كل الحلقة. سنرى: هل سيُصْدَع واختلال لهذا الإجماع الأوروبي بين مَن يرى أنه: "لا، دعنا نذهب للتفاهم"، وبين مَن يقول: "لا، علينا أن ندعم أوكرانيا حتى النفس الأخير، والتعامل مع روسيا يهدّد الأمن الجماعي الأوروبي"؟ كيف ترى ذلك؟
محمد الشرقاوي: ليس بهذه الحدّية أو التطرّق بين الأبيض والأسود، لكن هناك خيار ثالث: أن الأوروبيين يرحّبون بأية قمة، أي اتفاق، أية مبادرة سلام يقدّمها ترامب، أية عملية تقارب مع الكرملين، لكن أيضًا هم لا يتخلّون عن مجموعة من الشروط.
لذلك أرى أن ما يقود فشل أو نجاح القمّة في بودابست هو: هل ترامب يعبّر عن إرادة جماعية لكل الغرب بشقّيه الأمريكي والأوروبي، أم فقط يكتفي بما يريد البيت الأبيض؟
كمال خلف: هل تؤثّر القمّة برأيك على الصين ومصالحها في آسيا وتُباعِد بينها وبين موسكو؟ هل القمّة تثير فعلاً قلق الصين؟
محمد الشرقاوي: لا ينشغل الصينيون في هذه المرحلة حقيقةً بما يقدّمه أو لا يقدّمه ترامب الآن. هم موافقون من مسافة القرب، وهو قرب حَذِر، مع الكرملين ومع بوتين. لا يريدون، كما قلت في البداية، أن يكون هناك حلف عسكري صيني-روسي، ولكن هناك تحالف قائم نسبيًّا بين العاصمتين.
الصين تريد أن تحتفظ بحرية بلورة استراتيجيّتها وتحديدها حسب المُتغيّرات وحسب التقديرات من داخل الصين أكثر من التعويل على التفاعُلات في الساحة الدولية، خاصة في فترة رئاسة ترامب.
كمال خلف: تأثير القمّة في الشرق الأوسط، دكتور؟
محمد الشرقاوي: لا يبدو أن القمّة ستغّير كثيرًا من المناخ الراهن، خاصة وأن الكرملين قد قَبِل بما هو الآن. لاحظنا أن الزيارة الأخيرة لأحمد الشرع إلى الكرملين أكّدت أن دمشق الجديدة تلتزم بالاتفاقات السابقة، وأن القواعد العسكرية الثلاث: حميميم وطرطوس، ستظلّ في مكانها.
إذاً، رأينا بوتين مرتاحًا في شرق المتوسّط، لا تزال عينه تمتدّ نحو ليبيا، واستثمار في حفتر بشكلٍ أو بآخر.
في المقابل، المُتغيّر الوحيد أيضًا - وهو لا يزعج الروس - أن ترامب الآن يتزعّم حملة توسيع تأثير إسرائيل وتعزيز مكاسبها في الحروب التي خاضتها.
إذاً، المنطقة الآن ينبغي أن تهتمّ بما قد لا يكشفه ترامب ونتنياهو من خلال تعاونهما في المراحل المقبلة، وينبغي أن ندقّق أكثر فأكثر في مسألة الخطّة التي تمّ التوافق عليها.
المُتغيّرات الاستراتيجية الأخرى في المنطقة ربما ستذهب في اتجاه حمل بعض العواصم في الخليج على التطبيع. وهذا لا يقلق أيضًا الروس.
إذاً، أرى أن موضوع الشرق الأوسط ربما قد يأتي في مرتبة متأخّرة على قائمة جدول الأعمال.
كمال خلف: الشرق الأوسط من خلال غزّة، الضفة، سوريا، لبنان، العراق. نحن أمام منطقة أصبحت تحت النفوذ الأمريكي بلا مُنازِع، بلا مُنافسين؟
محمد الشرقاوي: ينبغي أن نعود إلى فكرة: كيف يستطيع العقل العربي رغم قلّة حيلته الاستراتيجية أن يلعب لعبة توازن القوى؟ وقد لعبناها بشكل معقول في فترة الخمسينات والستينات.
هل ننفتح جزئيًّا على الولايات المتحدة، على روسيا، على الصين؟ بمعنى أننا نستثمر في توازن قوى يفوق كل عاصمة أن تشترانا من خلاله؟
أرى للأسف أنه حتى بعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات كانت في وقت من الأوقات قبل ثلاث سنوات تنحو منحى روسيًّا ومنحى صينيًّا، بدأ الآن تراجع عن هذه المبادرة.
إذاً، البقاء تحت مظلّة ترامب =الذي يبشّر باستراتيجية نتنياهو في المنطقة، وكل ما يهمّه هو تحرير الرهائن وتعزيز الاتفاقات الإبراهيمية، أرى أنه ربما على العواصم العربية أن تفكّر خارج الصندوق.
وهل هذه مرحلة ينبغي علينا أن تكون تبعية بحُكم الأمر الواقع، أم أن أحيانًا فترة الانحصار الاستراتيجي هي التي تجعل المرء يفكّر بطريقة مُبْتَكرة وبطريقة البحث عن خيارات أخرى؟
أرى أن هذه التغيّرات: هناك محور غربي فيه اضطرابات، وهناك محور الشرق الآن يريد أن يعوّل على استراتيجية بديلة. هناك فُرَص للاستثمار العربي.
كمال خلف: لكن محور الشرق هنا، دكتور - محور الشرق - أتحدّث عن الصين، روسيا، ربما الهند أيضًا حاولت الدخول إلى منطقة الشرق الأوسط، إلى غرب آسيا، المنطقة العربية بشكلٍ محدّد عبر الاستثمارات والصفقات، الأسلحة، والممرات، والمشاريع التجارية...
فجاءت الولايات المتحدة عبر نتنياهو، وجاءت بسياسة العصا، ويبدو أن دوائر القرار في المنطقة العربية خَشِيَت من العصا، وبالتالي اتّجهت نحو الولايات المتحدة، رمت أوراقها هناك؟
محمد الشرقاوي: لكن أنا أُحافظ على إيماني بهيغل وبنظرية الأطروحات المُتنافِرة. لا شكّ أن هذه الأطروحة الآن - دور ترامب وقضية إسرائيل - هي أطروحة، وهناك أيضًا الأطروحة الموسيقية. سنقاوم هذا المدّ.
أرجو أن لا نبقى مُشْبَعين أكثر من اللازم بنظرية ضرورة التبعية أو ضرورة الاصطفاف خلف هذه القوّة العظمى أو تلك. وجرّبناها لقرابة 70 عامًا في القرن الماضي.
أرى أن هناك خيارًا جديدًا، وربما قد يبدو غريبًا للبعض، لكن هذا لا يمنع من لحظة الاجتهاد.
إذا كانت هناك أربعة محاور تتنافس، وإذا كان النظام الدولي الآن مبعثَرًا لم يُرَتّب نفسه ولم يستقرّ على حال، لماذا لا نفكّر في احتمال أن هناك محورًا خامسًا يمكن أن نسمّيه "محور المحيط والخليج"؟
بمعنى أن القُدرات العربية، رأس المال العربي، القوّة الناعمة، القوّة الصُلبة، الاستثمارات، الصناديق السيادية، لغة الاقتصاد السياسي التي تتحدّث بها الصين الآن مع العالم، يمكن أن نعتبر أن هناك أيضًا قوّة اقتصادية أو قوّة مالية بالأحرى، وقوّة بشرية، وما شاء الله النُخَب العربية داخل العالم العربي وفي الشتات موجودة لأن تبلور هذا الخيار الخامس.
ونحن أيضًا نحتاج من خلال دعم فكرة المحور الخامس أن نُنادي أيضًا بأن نظام الأمم المتحدة حان الوقت أيضًا أن يُراعي أن هناك عالمًا عربيًّا، وهناك أفريقيا، وهناك دول أخرى لا ينبغي أن تبقى خارج عالم الشمال.
كمال خلف: على الهامش، هذا "محور الخليج والمحيط" قد يكون فكرة تستحقّ فعلاً النظر إليها.
دكتور، الوقت أصبح ضيّقًا جدًّا. أشرت إلى زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو، وأيضًا وصلت رسالة هامّة من إيران عبر السيّد علي لاريجاني، رسالة من المُرشد السيّد علي خامنئي إلى بوتين أيضًا. البعض يضعها في إطار التحرّكات الدبلوماسية التي تستبق القمّة.
هل تعتقد بأنه فعلاً سيكون هناك تأثير لهذه القمّة في ملفّات مثل البرنامج النووي الإيراني، التفاوض الإيراني مع الولايات المتحدة الذي قيل بأنه فيه تبادُل رسائل حتى هذه اللحظة، أو موضوع استمرار التصعيد في هذه المنطقة؟
هل تعتقد بأن الأطراف تحاول استباق نتائج القمّة بتحرّكات دبلوماسية؟
محمد الشرقاوي: القراءة في طهران تعوّل على ترجيح فشل القمّة في بودابست أكثر من نجاحها. بمعنى: استمرار الخلافات بين الكرملين والبيت الأبيض.
وطهران ترى أن هناك فرصة حقيقية لاستعادة (المَخِم) إلى التحالف الذي قام عام 2017 بين طهران وأنقرة وموسكو، في ما يسمّى التحالف الإيراني-التركي-الروسي.
وهنا أرى أن هذا ما ينبغي أن ننتبه إليه الآن في المنطقة.
بغضّ النظر سواء توجّهنا باتجاه الشرق أو باتجاه الغرب أو باتجاه ذواتنا كمحورٍ خامس، أرى أنه ينبغي أن نهتّم أيضًا بأن هناك صعودًا وتناميًا لدور ثلاث قوى إقليمية ينبغي أن نحسب لها كل الحساب.
لا خلاف على المشروع الإسرائيلي، وعانينا منه الكثير. ينبغي أيضًا أن ندقّق في المشروع التركي، وأيضًا أن ندقّق في المشروع الإيراني.
إذاً، ينبغي أن نضع في الحسابات أن منطقتنا بين الخليج والمحيط تخضع أو تتأثّر برياح شرقية، برياح غربية، ولكن أحيانًا تتأثّر برياح من داخل بحر العرب ومن داخل باب المندب.
أيضًا، البُعد الإقليمي ينبغي أن يكون جزءًا من إعادة تقييم المصالح العربية.
كمال خلف: نقطة أخيرة قبل أن نختم هذه الحلقة.
عندما يتم الحديث عن قمّة بين الكبار، وتحديدًا روسيا والولايات المتحدة أو الصين والولايات المتحدة، يظهر منطق الصفقات أو تبادُل المصالح في مناطق جغرافية محددة.
اليوم يُطْرَح هذا الأمر بشكل كبير، وظهر للسطح على سبيل المثال أن تعطي روسيا دورًا أكبر للولايات المتحدة في القُطب الشمالي حيث الموارد والمعادن والممرّات، مقابل أن تمنح روسيا دورًا أكبر في منطقة الشرق الأوسط أو غرب آسيا.
مثلاً: أن تتقدّم روسيا، أن تتخلّى روسيا عن دور لصالح الولايات المتحدة في جنوب القوقاز، في آسيا الوسطى دول آسيا الوسطى هذه مهمّة حين تصل إلى حدود الصين تتخلّى عن دور الولايات المتحدة مقابل أن تعطي الولايات المتحدة دورًا أكبر لروسيا في شرق أوروبا.
هذا منطق المُقايضات، برأيك، سيكون حاضرًا على الطاولة؟
محمد الشرقاوي: وأنت تبلور سؤالك، وجدت نفسي أفكّر وكأن ترامب وبوتين بمثابة سايكس-بيكو جديدين في القرن العشرين، وينظران إلى خارطة العالم أو خارطة اليابسة ويقصّان كما يحلو لهما.
لا أرى المسألة أصبحت بهذه السهولة. بمعنى: ينبغي أن ننتقل في فَهْمِنا للقوّة. نحن أمام قوّتين عظميين، لكن ليستا بفكرة القوّة المُطلقة أو التفوّق الاستراتيجي البعيد عن الدول الأخرى.
ينبغي أن نخفّف ونتواضع في قراءة القوةّ الأمريكية وحتى القوّة الروسية.
إذاً، أرى أن المسألة هي مجموعة توافُقات يمكن أن تحدث، لكن باستحضار إرادة الأطراف المعنية.
ولا زلت أؤمن بأن الاتحاد الأوروبي سيتدارك لحظة ما أقدم عليه ترامب سابقًا، وإنه سيدفعه باتجاه عدم القبول بالشروط الثابتة أو الشروط الجامِدة التي سيكشفها بوتين بأن لا نقاش على وضع السيادة الأوكرانية في وضعها الحالي.
إذاً، أرى أن المسألة عبارة عن صفقاتٍ من نوعٍ آخر، ليس على حساب الآخرين، ولكن بما يرتضيه الآخرون.
كمال خلف: شكرًا جزيلًا لك، دكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصِراعات الدولية والعضو السابق في لجنة خبراء الأمم المتحدة، معنا من واشنطن. شرّفت هذا البرنامج، دكتور محمد. ربما نلتقي بعد القمّة لنقيّم النتائج أيضًا في هذا البرنامج "دوائر القرار".
شكرًا دكتور.
محمد الشرقاوي: بكل سرور.
كمال خلف: حيّاك الله.
مشاهدينا، "دوائر القرار" انتهى لهذا الأسبوع.