مناصرة غزة.. الموظفون الأمميون في عين العاصفة؟
في غزة لا يكتفي القتلة بإزهاق الأرواح وتدمير البيوت وتشريد السكان وتجويع الأطفال، بل يريدون محو كل أثر للجريمة، وإسكات كل من يذكّر بها أو يترحّم على ضحاياها. بعد استهداف الصحافيين والأطباء وعمال الإغاثة، جاء الدور على موظفي الأمم المتحدة الذين رفعوا الورود البيضاء تحية لزملائهم الشهداء من فرق الإغاثة في القطاع، ليتحوّل هذا المشهد الإنساني إلى "جريمة" في نظر بعض القوى الغربية ووسائل الإعلام الإسرائيلية ,تُوجَّه إليهم الآن تهم "معاداة السامية" و"الانحياز للإرهاب".
نص الحلقة
بيار أبي صعب: مساء الخير، كأنّ قَتْل الصحافيين والطواقم الطبية وعمّال الإغاثة في غزّة لا يكفي. كأنّ التدمير والتهجير والتجويع وقَتْل عشرات آلاف المدنيين وجلّهم من النساء والأطفال لا يكفي. يجب فوق ذلك أن تُمحى آثار الجريمة، يجب أن يتعامى العالم عن الهمجية، وإلا فالتّهمة جاهزة: عداءٌ للسامية وانحيازٌ للإرهاب. هكذا وجد موظّفو الأمم المتحدة أنفسهم في قفص الاتّهام لأنهم رفعوا الورود البيض تحيّةً لمئات الشهداء في القطاع من زملائهم موظّفي الإغاثة والعمل الإنساني، أو لأنهم شاركوا في اجتماعٍ افتراضي مع المُقرّرة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي.
الولايات المتحدة وإسرائيل سارعتا إلى رفع الشكاوى التي تطعن في حياد الموظّفين الأممّيين وتطالب بمُحاسبتهم. فهل إدانة الانتهاكات التي يتعرّض لها القانون الدولي في فلسطين جريمة؟ هل الحياد يعني السكوت عن الإبادة الجماعية كما وصّفها تقرير جديد صادِر عن لجنةٍ مستقلّة في الأمم المتحدة؟ أَممنوعٌ على الموظّفين الأممّيين أن يقفوا على أطلال الإنسانية في غزّة؟
لمناقشة هذا الموضوع معنا في الاستوديو الكاتب والأكاديمي عمر نشّابة المُتخصّص في العدالة الجنائية، ومن جنيف الخبيرة في القانون الدولي رانيا ماضي، ومن طنجة المحامي والناشِط الحقوقي عبد المجيد المراري، أهلاً بكم جميعاً. أستاذ عمر نشّابة سنبدأ من عندك بسؤالٍ عام له علاقة بأجواء الأمم المتحدة اليوم بعد هذه الوقفة الاحتجاجية وردود الفعل عليها، هل يمكننا القول إن صَيْد الساحِرات بدأ في هذه المنظّمة الدولية التي تُعنى بتنظيم العلاقات بين الدول؟ وهل الشكوى الإسرائيلية والأميركية تنطلق فعلاً من غِيْرة على استقلالية هذه المنظّمة الأممية، أم أن هناك هدفاً آخر هو الرقابة على كل ما يمكن أن يُشكّل نقداً لإسرائيل؟
عمر نشّابة: شكراً على استضافتي في هذا البرنامج، بدايةً تحيّة لذوي الشهداء والتمنّي بالشفاء العاجِل للجرحى في غزّة، في فلسطين، في لبنان، في اليمن، العدو الإسرائيلي فتح أكثر من جبهةٍ،
فهل بدأ صَيْد الساحِرات؟ تحدّثتم في المُقدّمة عن الانتهاكات بحقّ موظّفي الأمم المتحدة، العدو الإسرائيلي قتل أكبر عدد منهم ومعظمهم من موظّفي الأونروا منذ قيام الأمم المتحدة في العام 1945، قتلهم رغم أنهم يتمتّعون بالحَصانة والحماية وفق القانون الدولي، وكانوا داخل مقرّات الأمم المتحدة نفسها. العدو الإسرائيلي قصف مقرّات الأمم المتحدة تحت العَلَم الأزرق، وعلى هذا العَلَم خريطة العالم بأسره. قام العدو بوقاحةٍ بقتل الأطفال الذين يُفْترَض أن يكونوا محمّيين وقد لجأوا إلى الأمم المتحدة طلباً للحماية فقتلهم. أمام هذا كله، يصبح صَيْد الساحِرات أمراً بسيطاً، ويعكس في الحقيقة حال التوتّر الأميركي–الإسرائيلي، خصوصاً بعد صدور تقارير دولية تُدين الكيان الإسرائيلي، ليست صادرة فقط عن هيئاتٍ أمميةٍ بل أيضاً من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
بيار أبي صعب: أنا قصدتُ بصَيْد الساحِرات داخل الأمم المتحدة، كيف تعاطت الإدارة مع موظّفيها؟
عمر نشّابة: لا أعتقد أن هذا =الأمر واقعي لأن الأمم المتحدة تُدرك وجميع موظّفي الأمم المتحدة يدركون أنهم قد يكونوا الضحية المقبلة للعدوان الإسرائيلي كزملائهم في الأونروا واليونيفيل في جنوب لبنان، الكيان الإسرائيلي هدّد أيضاً الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش وقام وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس باتّهامه بتحويل الأمم المتحدة إلى مكانٍ مُعادٍ للسامية وكلام من هذا القبيل، وبالتالي هذا التوتّر الأميركي - الإسرائيلي ناتج من تصاعُد التعاطُف الدولي والإجماع الدولي الذي يكبر يوماً بعد يوم داخل الأمم المتحدة وخارجها وفي الدول الغربية التي كان الكيان الإسرائيلي يعتمد عليها لدعمه في كل المواقف خلال السبعين سنة الماضية التي يستمر العدو الإسرائيلي منذ 70 عامأً في خرق القانون الدولي وتجاوز أبسط الحقوق الإنسانية. وكان يعتمد على أن الدول الغربية ستكون دائماً داعِمةً له، اليوم نلاحظ أن الأمور لم تعد كما كانت فالأمم المتحدة لم يعد بإمكانها البقاء صامِتة وبالتالي تخرج كل هذه التقارير، والإبادة الجماعية المستمرّة منذ عامين تجعل السكوت عنها أمراً مُستحيلاً.
بيار أبي صعب: أستاذة رانيا ماضي هل أخلّ موظّفو الأمم المتحدة في جنيف بالقواعد والنظام الداخلي بتضامنهم مع زملائهم الشهداء في غزّة؟ وهل الوقوف مع قضية إنسانية هو خروج عن الاستقلالية والحياد؟
رانيا ماضي: في الحقيقة هناك جانبان، تمّ تنظيم تظاهرة من موظّفي الأمم المتحدة في ساحة المنظّمة في جنيف يوم الثلاثاء تضامناً مع نحو 361 من زملائهم العاملين في المؤسّسات الدولية سواء في الجمعيات أو في الأونروا وغيرها. بالنسبة للسؤال فإن موقف موظّفي الأمم المتحدة هو قبل كل شيء موقف إنساني رفضاً لما يجري في غزّة من جانب إنساني بَحْت. لكن أيضاً كثير من الخُبراء القانونيين الذين عملوا في لجان تحقيق دولية سابقة ليس فقط في فلسطين بل في الكونغو ورواندا وغيرها أيضاً عبّروا عن رفضهم لما يحدث لأنه يعني عملياً إسقاط المؤسّسة القانونية الدولية المُسمّاة الأمم المتحدة التي تأسّست عام 1948 بعد الحرب العالمية الثانية. إذاً هناك جانبان، الجانب الإنساني وجانب إسقاط المنظومة القانونية، الموظّفون يقولون إنهم يشعرون بالخجل من كونهم قانونيين غير قادرين على الوقوف في وجه هذا الظلم، أو منع إسقاط هذه المنظومة القانونية التي بُنيت منذ أكثر من سبعين عاماً، لذا الجانبان مهمّان.
بيار أبي صعب: أستاذ عبد المجيد مراري ضيفي هنا في الاستوديو الدكتور نشّابة مُتفائل ولا يتوقّع أن يكون هناك نوع من الانتقام من الموظّفين رغم الحديث عن توجيه إنذارات والتحقيق معهم. برأيك هل ستخضع المنظّمة للابتزاز والولايات المتحدة أضخم مموّليها؟ وهل ستلجأ إلى إجراءاتٍ لمنع موظّفيها من إدانة التطهير العِرقي في فلسطين وهي إدانات صدرت في السابق بشأن يوغسلافيا ورواندا من دون أن تُطرح حينها إشكالية الحياد وتجنّب الانخراط في الصِراعات السياسية؟
عبد المجيد مراري: في البداية تحية لك ولضيوفك وللمشاهدين. لا أعتقد أن منظّمة الأمم يمكن أن تفرض أسلوب عمل يخالف قواعدها ما دام أن موظّفيها ملتزمون بالحياد، والحياد لا يعني أن نصف عملاً ما بأنه جريمة ضدّ الإنسانية أو إبادة أو تجويع أو جريمة حرب بأنه ليس حياداً، فالحياد لا يتناقض مع التكييف القانوني وإبداء الموقف. الولايات المتحدة تريد من موظّفي الأمم المتحدة أن يقولوا عن الأبيض إنه أسود، وأن يُغيّروا الحقائق لتتماشى مع مزاجيّتها ومزاجيّة الاحتلال الإسرائيلي، وأن يردّدوا نفس سمفونية الاحتلال الإسرائيلي وإلا اتُّهموا بمُعاداة السامية. لذلك لا أعتقد على الإطلاق أن تُعطى توصيات وأوامر أو تعليمات لموظّفي الأمم المتحدة من مسؤوليها بأن يخرجوا عن دورهم في مُمارسة المهام الإنسانية والإغاثية في المنطقة.
بيار أبي صعب: يُذْكَر أن موظّفي الأمم المتحدة نفّذوا أخيراً وقفة احتجاجية في جنيف بالورد الأبيض، بينما مُنِع زملاؤهم في نيويورك من تنفيذ وقفة مُماثلة بالشموع تحيّةً لمئات عمال الإغاثة الذين استشهدوا في غزّة، وبينهم 373 من موظّفي الأمم المتحدة، وهو عدد غير مسبوق في تاريخ هذه المنظّمة الدولية على امتداد ثمانين عاماً. هذا الأمر لم يعجب المندوب الإسرائيلي والقائمة بالأعمال الأميركية اللذيان اعتبرا المبادرة خروجاً على الحياد، وطالبا المُديرة العامة لمكتب المنظّمة في جنيف بالمُحاسبة والعِقاب، تذكير سريع بالوقائع.
دكتور نشّابة هناك واقعة أخرى استثارت غضب المندوب الإسرائيلي والقائمة بالأعمال الأميركية هي كما ذكرنا الاجتماع الافتراضي الذي شارك فيه أكثر من ألف موظّف مع المُقرّرة الخاصة فرانشيسكا ألبانيزي، مثلاً القائمة بأعمال البعثة الأميركية كتبت "إذا شارك موظّفون في الأمم المتحدة خلال يوم عمل لهم في هذا الاجتماع عبر تطبيق تيمز فلا مفرّ من اتّهام الأمم المتحدة بمُعاداة إسرائيل بشكلٍ منهجي وبالتالي مُعاداة السامية"، يعني الأمم المتحدة بأمّها وأبيها صارت مُعادية للسامية.
عمر نشّابة: الاجتماع كان مع =مُقرّرة للأمم المتحدة وليس مع شخص من خارج المنظّمة، صحيح أن المقرّرة لا تتحدّث باسم الأمم المتحدة ولكنها لا تعتبر بأن إسرائيل عدو، هي تقدّم المُعطيات التي تتوافر لديها مع الإثباتات وتضعها في التقارير وتتلوها على مجلس حقوق الإنسان وبالتالي تقاريرها والكلام الذي تقوله فرانشيسكا ألبانيزي هو نفس الكلام الموجود في تقاريرها الصادرة عن المُقرّرة الأممية والتي قد لا تتبنّاها المنظّمة بالضرورة، وبالتالي الحجّة التي تتذرّع بها السفيرة الأميركية تدلّ على توتّر ومحاولة لإرضاء الإسرائيليين وجعلهم يشعرون بأن الولايات المتحدة تقف معهم وبألا يخشوا من هذا التكاتُف الدولي.
بيار أبي صعب: وتكميم موظّفي الأمم المتحدة.
عمر نشّابة: أتذكّر حينما صدر قرار عن مجلس الأمن الدولي السنة الماضية خلال شهر رمضان بوقف إطلاق النار حصل تصفيق في القاعة، الجميع صفّق من الموظّفين ومن الأشخاص الموجودين في مجلس الأمن الدولي، هناك مجازر في غزّة ومبادئ الأمم المتحدة تتحدّث عن حقوق الإنسان واحترام الكرامة =الإنسانية، هؤلاء العدد الأكبر من الموظّفين دخل إلى الأمم المتحدة لأنهم يؤمنون بكرامة الإنسان وبنظامٍ عالمي يمكن أن يؤمّن أبسط الحقوق للناس. ما يقوم به الكيان الإسرائيلي منذ عامين ينسف كل المبادئ الراسِخة التي أُنشئت عليها الأمم المتحدة، وبالتالي الموظّفون يتصرّفون بطريقةٍ لا تحمل أية شكوك حول انحيازهم، هم منحازون للقانون الدولي ولكرامات الناس وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
بيار أبي صعب: أستاذة رانيا ماضي، فرانشيسكا ألبانيزي هي حال مُعبّرة تختصر أسلوب التعامُل الأميركي مع المؤسّسات الأممية، لقد صبّت عليها الولايات المتحدة جامَ غضبها وأخضعاتها للعقوبات بسبب توثيقها جرائم إسرائيل وكتابة تقرير يتضمّن قائمة كاملة بكل الشركات الأميركية والعالمية التي تدعم الإبادة داعيةً إلى محاسبتها، أما زال ممكناً لأمثال فرانشيسكا ألبانيزي التي تجدّدت لها فترة جديدة في منصبها هل وجودهم في الأمم المتحدة ما زال ممكناً؟
رانيا ماضي: بصراحة التجديد لها جاء قبل التقرير الذي تحدّث عن الشركات العالمية التي تدعم الكيان. أريد هنا أن أذكّر لأنك ذكرت فرانشيسكا ألبانيزي، في عام 2009 عندما شنّ الكيان الصهيوني في ديسمبر حملة على غزّة وما حدث من قَتْلٍ وتدمير وغيره، مَن قامت بتقرير التي عملت تقرير غولدستون إسمها فرانشيسكا ماروتا وهي إيطالية، أيضاً تمّ اتّهامها من قِبَل الكيان الصهيوني بمُعاداة السامية وأنها لم تكن مُنْصِفة في التقرير. لهذا أحببتُ أن أذكّر أن كل مَن يذكر الحقيقة يتمّ اتهامه بطريقةٍ أو بأخرى سواء من الكيان الصهيوني أو من أميركا، لهذا أقول لك الآن إن فرانشيسكا ألبانيزي وهي كما ذكرت مستقلّة ولكنها أيضاً تتحدّث باسم المنظومة القانونية الدولية وهي لديها خبرة، وهنا أحب أن أذكّر أيضا ًبمدام نافي بيلاي، عندما قدّمت التقرير في 16 سبتمبر وبعد عام من قرارات الجنرال أسيمبلي في نيويورك بأن على الكيان الصهيوني أن ينسحب من الأراضي المحتلّة أيضاً تمّ اتّهامها، وهنا أحبّ أن أذكّر عندما ذُكِرَت كلمة إبادة، نيلسون مانديلا طلب من نافي بيلاي في العام 1994 أن تتولّى محكمة رواندا، ولأول مرة يتم ّنطق كلمة إبادة عندما كانت مسؤولة محكمة رواندا، وفيما بعد أصبحت قاضية في محكمة الجنايات. لهذا أقول إننا يجب أن نحافظ على العدالة، لهذا نحن متفائلون رغم كل شيء.
عمر نشّابة: ربمّا يجب أن =نضيف هنا أن الكيان الإسرائيلي عبّر عن عدائه للأمم المتحدة بشكلٍ واضح وصريح، ففي العام 2023 كان المندوب الإسرائيلي يُمسِك بميثاق الأمم المتحدة الذي هو الميثاق الأساسي لكل الدول ويدمّره أمام كل أعضاء الجمعية العامة، هذا السلوك العدائي، هل يتصوّر أحد أن تتصرّف تجاهي بهذا السلوك العدائي ولا يحقّ بأن يكون لديّ ردّة فعل!
بيار أبي صعب: أستاذ مراري أتوجّه إليك بهذا السؤال وأنت العارِف بالمؤسّسات الأممية في ضوء تجربتك مع المحكمة الجنائية الدولية، ما هو الحدّ الفاصل أو ما الفرق أو المسافة التي تفصل بين الواجب الأخلاقي والوظيفة الأممية والتزاماتها؟ ما المسافة التي تفصل بين الحقّ
من جهةٍ في حرية التعبير ومن جهةٍ أخرى واجب الحياد؟
عبد المجيد مراري: طبعاً هذا الذي تحدّثت عنه هو الذي أشرت إليه من إجراءات وقواعد العمل بين أعضاء الأمم المتحدة وفرق التحقيق والخبراء وغير ذلك، القاعدة العامة هي أن يبقى هذا الموظّف يضطلع بدوره بشكلٍ مُحايد وألا يكشف انتماءه لطرفٍ دون آخر لكن عندما يقف هذا الموظّف =ويعطي توصيفاً مُعيّناً ويقوم بالدور المنوط به هذا الذي يزعج، فبالتالي هناك تحقيق فُتِح داخل الأمم المتحدة ولم يثبت على الإطلاق بأن هناك خروجاً عن مبدأ الحياد والمهنية أو خروج على المبادئ الأخلاقية والعملية داخل منظومة الأمم المتحدة على الإطلاق. كانت هناك تحقيقات عدّة، حتى أنه مبدئياً تمّ استبعاد بعض الموظّفين لكن قالوا مبدئياً في التحقيق ولم يتمّ توقيفهم بشكلٍ نهائي لأسبابٍ تقنيةٍ مرتبطة بالممارسة من داخل الأمم المتحدة وليس ارتباطاً بموضوع فلسطين وغزّة. إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية كيفما كان شكل هؤلاء الموظّفين سترفضهم، القضاء وصفته بمُعاداة السامية، السيّد الرئيس كذلك فبالتالي كل مَن يُعبّر عن رأيه وكل مَن يقف إلى جانب الحقّ ويصف ما يقع بأنه جريمة إبادة جماعية وتجويع فهو مُعادٍ للسامية، المنطق عندهم هو القول بأن ما يحصل هو أمرٌ عادي يأتي في إطار الدفاع الشرعي عن النفس الذي تقوم به إسرائيل ولا يرون بأساً في أن يُقْتَل الأطفال والنساء ويُهجَّروا وتُطهَّر الأرض، هذه هي اللغة التي تريدها الولايات المتحدة الأميركية التي لا تؤمِن بشيء إسمه العدالة الدولية والدليل على ذلك كيف يسخر الرئيس الأميركي من عدالته ومن قضاء بلده، فبالتالي علاقته بالعدالة واضحة، هو لا يؤمِن بالمؤسّسات الدولية وقد انسحب من مجلس حقوق الإنسان بنسختيه الأولى والثانية، ما دام لا قيمة لهذا المجلس فقد أوقف عضويّته وسَحَبَ تمويله وسَحَبَ تمويل الأونروا واتّهم السيّدة ألبانيزي بمُعاداة السامية، بماذا قامت؟ هل فُتِح تحقيق بأن هذه السيّدة بالفعل مُتحامِلة على إسرائيل؟ أعتقد أن كل التقارير المنشورة يمكن فحصها وبالتالي ليست فقط السيّدة ألبانيزي التي تقول ذلك بل هناك خبراء في الأمم المتحدة خرجوا بهذه الخلاصة، التحقيق الأخير لمجلس حقوق الإنسان خرج بخلاصة أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية وأن هناك قصداً جنائياً ووجّه اتّهاماً للرئيس الإسرائيلي ورئيس الوزراء ووزير الدفاع غالانت مباشرة. مَن تكون رئيسة اللجنة كما أشارت ضيفتك هي قاضية داخل محكمة الجنايات الدولية بمعنى أنها اعتمدت المعايير القضائية المُعتمدة داخل المحكمة في توصيف جُرْم مُعيّن بأنه جريمة إبادة جماعية من غيره.
بيار أبي صعب: فاصل قصير ونعود.
أهلاً بكم مجدّداً أعزّائي المشاهدين في هذه الحلقة من برنامج "على محمل الجد"، اسمحوا لي بأن أعيد الترحيب بضيوفنا: عمر نشّابة في بيروت ورانيا ماضي في جنيف وعبد المجيد مراري في طنجة. نصل الآن إلى الجزء الثاني من حلقتنا مع فقرة "على محمل النقد"، سفير الكيان لدى الأمم المتحدة في جنيف كتب رسالة إلى المُديرة العامة لمكتب المنظّمة تاتيانا فالوفايا جاء فيها "موظّفو الأمم المتحدة ليسوا ناشطين ولا يضطلعون بدورٍ سياسي، يجب أن يخضع المُحرّضون على مثل هذه الأنشطة ذات الدوافع السياسية والمشاركون فيها لإجراءاتٍ تأدبية ومنها الوقف عن العمل". انتهى الاقتباس، في الحقيقة لم يفعل المحتجّون سوى واجبهم بإدانة الانتهاكات التي يتعرّض لها القانون الدولي في فلسطين كما يشرح لنا المحامي الدولي خالد الشولي، نستمع معاً.
خالد الشولي: مبدأ الحياد تمّ تكريسه في ميثاق هيئة الأمم المتحدة وورد في نظام موظّفيها ويفرض على الموظّف الدولي الامتناع عن العمل لصالح دولة أو طرف من أطراف أيّ نزاع، إلا أن هذا المبدأ لا يمكن تفسيره على إطلاقه بوصفه التزاماً تاماً بالصمت أو اللامُبالاة إزاء الانتهاكات الجسيمة والموثّقة للقانون الدولي الإنساني. ونحن نعلم بأن مجموعة الجرائم التي تقوم بها دولة الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة والضفة الغربية والتي تصل إلى أن تكون جرائم إبادة جماعية، تمّ تكييفها على أن هذه الأفعال في قطاع غزّة هي جرائم إبادة جماعية بالإضافة إلى الانتهاكات المُمَنْهَجة التي تقوم بها سلطات الاحتلال في الضفة الغربية والقدس الشرقية تمثّل أيضاً انتهاكات موثّقة وثابتة، ولذلك فإن محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري الصادر في سنة 2004 في قضية الجِدار قالت بأن أجهزة الأمم المتحدة لا تملك فقط الحقّ بل يقع عليهاً أيضاً واجب التذكير بالقانون الواجب التطبيق عند وقوع اتّهامات أو انتهاكات خطيرة. الاحتلال الإسرائيلي والسلطات الأميركية ومن ضمنها خطابات الرئاسة تتّهم كل مَن يعلو صوته ويقول بأن هناك جرائم تُرْتَكب وهناك قواعد قانونية تُنتهك يُتّهم بعدم الحياد وعدم الاستقلالية. ولذلك هناك لجان تأديبية ولجان تحقيقية يتمّ إنشاؤها ويمكن أن يتعرّض فيها الموظّف الدولي إلى عملية الفصل مع حِرمانه من كل حقوقه التعويضية وهذا ما حدث مع مجموعةٍ من الموظّفين وأنا وكيل عن بعض الموظّفين لدى أجهزة هيئة الأمم المتحدة ومحاكم هيئة الأمم المتحدة في هذا المجال. الحقيقة أن كثيراً من الموظّفين قاموا بهذا الفعل، الوقفات التذكارية في السابق في هذا المجال وفي هذه القضايا ولم يتم توجيه أيّ اتّهام لهؤلاء الموظّفين بأنه كان هناك خَرْق لمبدأ الحياد، ولكن في قضية فلسطين تمّ اعتبار هذه الأعمال خرقاً لمبدأ الحياد ولا يمكن اعتبارها قانونياً وقضائياً إلا أنها تضامن إنساني وليست مواقف سياسية. إذن الفعاليات التذكارية السلمية والدعوة لاحترام القانون الدولي الإنساني لا تُعْتَبر مخالفة للحياد، واعتبارها كذلك هو عملية تحريف لهذا المبدأ وتشويه له، فالحياد لا يعني الصمت أمام الجرائم الدولية الثابتة خصوصاً عندما يتعرّض لها موظّفو الأمم المتحدة مباشرةً، فالصمت ليس في هذا المجال والحياد لا يمكن أن يُخْرَق في هذا الوضع، بالإضافة إلى أن كل ما يتعلّق بالوقفات السلمية التي يدعو إليها الموظّفون في هيئة الأمم المتحدة تكريماً لزملائهم لا تعدو على أن تكون ضمن ممارسةٍ مشروعة لحرية التعبير داخل الإطار المؤسّسي من دون أن تنطوي على أيّ طابع تحزّبي أو مساس بمبدأ الحياد. ونحن نعلم أن حرية التعبير هي حرية مُكرّسة وثابتة بموجب المواثيق الدولية.
بيار أبي صعب: أستاذة رانيا =شَهِدَت الأسابيع الماضية مبادرة احتجاجية أخرى قام بها مئات الموظّفين في مكتب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، طالبوا باعتماد مُصطلح "الإبادة الجماعية" لتوصيف ما يحدث في غزّة، وجاء في رسالتهم "تتحمّل المفوضيّة مسؤوليةً كبرى قانونية وأخلاقية في التنديد بأعمال الإبادة الجماعية، وكل تقصير يقوّض صدقيّة الأمم المتحدة ومنظومة حقوق الإنسان نفسها"، ما تعليقك؟
رانيا ماضي: هي رسالة توجّه بها موظّفو الأمم المتحدة إلى فولكر تورك وطالبوا باتّخاذ موقف رسمي خاصةً بعد أن تمّ تقديم التقرير من خلال رئيسة لجنة التحقيق الدائمة التي تمّ تشكيلها عام 2011 طالبوا كي لا يكون هناك انتهاك للأمم المتحدة بخصوص اتفاقية الإبادة الجماعية. وخاصةً بعد تقرير مدام نافي بيلاي التي هي قاضية من جنوب أفريقيا. وهنا أحبّ أن أذكّر بمدام بنسودا في محكمة الجنيات في عام 2021 التي ذكرت في تقريرها أن ما يحصل في غزّة خلال السنوات الماضية وقبلها تقارير العديد من المنظمات القانونية الفلسطينية ذكرت أن هناك إصراراً على الإجبار على الرحيل. لهذا ذكّرت بما حصل عام 2008، 2012، 2014، 2018، 2021، وصدرت العديد من التقارير الأمميّة بعد كل جلسة لمجلس حقوق الإنسان. لهذا في العام 2021 تمّ تشكيل هذه اللجنة الدائمة، هنا أقول أن موظّفي الأمم المتحدة مهما حاولوا أن يكونوا حياديين ولكن لا يمكن الصمت إزاء ما يحدث ليس فقط لسبب أخلاقي أو إنساني أو قانوني وإنما لأن هناك انتهاكاً قانونياً، ومَن وضع القانون ليس الفلسطينيون بل المنظومة الدولية، ونحن نعلم أن هذه المنظومة الدولية كان أغلب أعضائها من دول استعمارية، لهذا كيف تريد أن تتّهم روسيا بالعداء لأوكرانيا وتصمت عندما يكون هناك عداء على دولةٍ أخرى. لهذا أقول تظاهُر الموظُفين أو أو السيّد فولكر تورك غيّر الخطاب لأنه لا يستطيع أن يبقى صامتاً. هنا أنت تهدم المنظومة القانونية الدولية السياسية وتفقد مصداقيّتها ولا تعود هناك أيةّ ضرورة لوجودها.
عمر نشّابة: ربما يجب أن نطرح السؤال وأنا أستمع إلى الضيفة العزيزة وهي تتحدّث أسأل هل الانحياز لاحترام القواعد القانونية هو خروج عن الحياد؟ هذا انحياز لاحترام قواعد قانونية. محكمة العدل الدولية التي هي جزء من الأجهزة الخمسة الأساسية للأمم المتحدة أصدرت أربعة ثلاثة أوامر تأمر فيها بإدخال مساعدات إلى قطاع غزّة والكيان الإسرائيلي يرفض تطبيق هذه الأوامر. هذه أوامر واضحة، موظّفو الأمم المتحدة يطالبون بإعطاء الأطفال بعض الطعام والشراب وفكّ الحصار عن أطفالٍ مُحاصرين داخل منطقة لا تزيد مساحتها عن 360 كيلو متاراً مربّعاً فيها مليونا إنسان بلا طعام، بلا كهرباء والقصف مستمر.
بيار أبي صعب: أسألك عن الإبادة، صدر عن لجنة تحقيق مستقلّة تابعة للأمم المتحدة تقرير من 72 صفحة يؤكّد ويُثبت بأن ما يجري في غزّة تنطبق عليه كل مواصفات الإبادة، ويدعو إلى التدخّل الدولي لوقفها ومحاسبة المسؤولين عنها، ما أهمية تقرير كهذا برأيك؟ وما قيمته؟
عمر نشّابة: هذا التقرير هو تحليل قانوني لسلوك الكيان الإسرائيلي مُقارنةً بتعهّداته في الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمُعاقَب عليها لأن الكيان الإسرائيلي كان قد وقّع على هذه الاتفاقية. وهذه الاتفاقية تحدّد ماذا تعني الإبادة الجماعية وتحدّد السلوك الذي يدلّ على أن هناك إبادة جماعية. كل فقرة داخل هذا التقرير الذي صدر في 16 سبتمبر تدلّ على الإطار القانوني العام ثم عرض المُعطيات والأدلّة ثم التحليل والخلاصات. ويتناول التسبّب بأذى جسدي، أولاً قتل أفراد من =مجموعة مُحدّدة، ثانياً التسبّب بأذى جسدي ونفسي لمجموعة مُحدّدة من الناس وهم الفلسطينيون، فرض الظروف المقصود منها تدمير مجموعة محدّدة من الناس، فرض ظروف تمنع الولادات. كل هذا موجود داخل التقرير والإثباتات قائمة، ما أهمية هذا التقرير؟ أولاً هو مفيد جدّاً لتأكيد المؤكّد الذي نشاهده على كل وسائل الإعلام ولكن في إطار قانوني، وأذكّر أن هناك مُلاحقة بعد تقديم جنوب أفريقيا شكوى في محكمة العدل الدولية التي ما زالت تنظر في هذا الأمر ولم يصدر قرار نهائي عنها بعد. لدى الكيان الإسرائيلي فرصة حتى شهر كانون الثاني لتقديم الردود على ما تقدّمت به جنوب أفريقيا ثم نتوقّع أن تطلب المحكمة المزيد من الأوراق وسيستمرّ الأمر. وأنا أتوقّع ألا يصدر قرار حتى عام 2027 ربّما أو 2028، هذا يأخذ وقتاً ولكن المحكمة من أين تأتي بالمعلومات؟ من منظّمات الأمم المتحدة، من الخبراء الأمميين وهؤلاء الخبراء وهذه اللجنة برئاسة نافي بيلاي التي كانت رئيسة محكمة رواندا ولاحقت الجهات في رواندا لارتكاب الإبادة الجماعية، وبالتالي هي مُختصّة ولديها الخبرة والمعرفة ومعها فريق من المُحامين والخُبراء الدوليين، وضعت هذا التقرير ووضعت فيه كمّاً هائلاً من الإثباتات والأدلّة التي تُثبت أن الكيان الإسرائيلي يرتكب منهجياً إبادة جماعية بحقّ البشر، وهذا خلافاً لتعهّداته في الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمُعاقَب عليها، ولكن يجب أن نقول لأن الجمهور ربّما يقول إلى أين يوصلنا هذا؟ خرجت إدانة عن محكمة العدل الدولية، هذا كله يعتمد على تنفيذ الحُكم من خلال مجلس الأمن الدولي، وفي مجلس الأمن الدولي الفيتو الأميركي ينتظر بكل أسف.
بيار أبي صعب: لو سمحت دكتور عبد المجيد مراري أريد رأيك بتقرير لجنة التحقّق المستقلّة عن الإبادة في غزّة، هذه اللجنة التي شكّلها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. ما هي الجدوى من تقريرٍ كهذا، بالإضافة إلى ما قاله الدكتور نشّابة ماذا يمكن أن =يُغيّر على الأرض؟
عبد المجيد المراري: طبعاً يغيّر كثيراً على اعتبار أن التقرير هو مُستند قانوني ووثيقة قانونية مهمّة جدّاً لما تحمله من توثيقات ومن أدلّة، نحن نتحدّث عما يزيد عن 600 دليل أشار إليه التقرير ثم جهة الاختصاص داخل التقرير، لا ننسى بأن رئيسة اللجنة هي رئيسة لمحكمة خاصة لجرائم الإبادة في رواندا، هي قاضية في محكمة الجنايات الدولية وما راكمته من خبرة في الممارسة القضائية هي التي أفادتها في إنجاز هذا التقرير وفق المعايير التي يعتمدها القضاء الدولي سواء محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية. لا ننسى بأن الخلاف الذي سيقوم في المستقبل هو حول القَصْد الجنائي، القَصْد الجنائي بالنسبة لهذا التقرير حَسَمَه تقرير الخبراء المُتخصّصين في جرائم الإبادة الجماعية، ما يزيد عن 550 خبيراً أصدروا هذا التقرير خلال أسبوعين تقريباً قبل تقرير لجنة التحقيق الأممية، فبالتالي هذا مُستند قانوني يمكن لمحكمة الجنايات الدولية أن تعتمد عليه ويمكن كذلك لمحكمة العدل الدولية أن تستند إليهم، ولطالما استندت محكمة العدل إلى تقارير عدّة في أول قرار ووقتي، أشارت رئيسة الجلسة آنذاك واستندت إلى تقارير الأونروا واستندت إلى عددٍ من تقارير خبراء الأمم المتحدة، بل أشارت وهي تتلو ذلك القرار الوقتي كانت تشير إلى بعض تقارير المنظّمات الحقوقية وعلى رأسها منظمة العفو الدولية بمعنى أنه يمكن الاستئناس بها، قد لا يمكن الاعتماد عليه بشكل كلّي ولكن يمكن الاستئناس به بناءً وتتميماً لتلك التحقيقات التي تقوم بها الجهات القضائية، لكن الأهمّ أن المصادر من جهةٍ أمميةٍ تعترف بأن ما وقع هو جريمة إبادة جماعية وأن القَصْد ا الجنائي هو أمر محسوم سواء على المستوى الأممي أو على المستوى القانوني على اعتبار أن هناك ما يزيد عن 550 أكاديمياً يحسمون أمر القَصْد الجنائي وهذا مهم جداً. لماذا هذه الفروق؟ المدّعي العام قبل أن يصدر مذكّرة توقيف على مَن اعتمد؟ اعتمد على فريق من الخبراء شكّله السيّد المدّعي العام يستأنس بدراساتهم، بتقاريرهم وبآرائهه وفيهم عدد من الخبراء الأميركيين وإن كان بعضهم يميل إلى الرواية والسردية الإسرائيلية، لكن رغم ذلك خرج السيّد المدّعي العام بتلك الخلاصة وأصدر تلك المذكّرات رغم التحفّظ على بعض تلك المذكّرات التي ساوت بين الضحية والجلاّد، ولكن كانت هناك مذكّرات يُبنى عليها في المستقبل وهناك مذكّرات أخرى جاهزة كذلك سيُبنى عليها بناءً على ما يُقدَّم إليه، بمعنى أن المحكمة الجنائية الدولية ستخرج من حيث النظر من جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية وستكون مُلزمة بالنظر في الجرائم الإبادة الجماعية وفق ما تقتضيه المادة السادسة من نظام مؤسّسة المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك استناداً إلى اتفاقية الإبادة الجماعية المُعاقَب عليها، بمعنى أن هذا التقرير مهمّ جدّاً ويعزّز التوجّه الدولي سواء على المستوى القضائي والأممي بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية. التحوّل الحاصِل كذلك على المستوى الأوروبي في وصف ما يقع بأنه جريمة إبادة جماعية، الإعلام الأوروبي منذ متى كان يتحدّث عن قرينة الإبادة الجماعية، كان دائماً لا يرى في ما تقوم به إسرائيل إلا دفاعاً عن النفس، تحوّل بشكلٍ كلّي للقول بأن هناك احتمال ارتكاب جريمة إبادة جماعية، هذا تحوّل مهمّ. بعض الشخصيات السياسية البارزة في أوروبا على رأسها دومينيك دو فيلبان الذي أصبح الآن مدافعاً عن اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة جماعية في آخر حوارٍ له، وهو المرشّح للرئاسة الفرنسية القادمة يتبنّى هذا التوصيف القانوني بما يحمله كذلك من وزن سياسي ومن تكوين قانوني يتبنّى هذا الموقف، وهذا مهمّ جدّاً، التحوّل في المواقف السياسية في أوروبا كذلك يعزّز هذا المسعى القضائي والقانوني والأممي في مُعاقبة ومحاسبة الاحتلال الإسرائيلي.
بيار أبي صعب: أشكرك أستاذ عبد المجيد على هذا الجواب المستفيض والقيّم جداً. أستاذة رانيا ماضي من المفيد أن نعود قليلاً إلى الوراء ربّما لنتذكّر كيف حاول الاحتلال اغتيال الأونروا بالأمس غير البعيد عبر تلفيق تِهمَ تبيّن لاحقاً أنها واهية ومُزيّفة، لكنه نجح آنذاك في استدراج دول عدّة إلى تعليق تمويلها لوكالة غوث اللاجئين بهدف الإمعان في خنق أهل غزّة، أسلوب الابتزاز والتضليل الإسرائيلي لا يتغيّر أليس كذلك؟
رانيا ماضي: شكراً، هذا سؤال مهمّ جدّاً وأعتقد أن الجميع يتوقّع أن الحملة الشَرِسَة ضدّ الأونروا لم تبدأ فقط الآن ولكن نتذكّر سابقاً الحروب المُتتالية على غزّة كان دائماً استهداف مدارس الأونروا التي كانت تؤوي اللاجئين لأنهم كانوا يعتقدون أن مجرّد وجود شعار الأمم المتحدة فإن الكيان لن يتجرأ على ضرب هذه المدارس، ولكن يجب أن نعود إلى الوراء عندما تأسّست الأونروا عام 1948 كانت مدة تأسيسها فقط لثلاث سنوات من أجل مساعدة إعادة اللاجئين إلى بلادهم وقراهم الأصلية التي هُجّروا منها بعد حرب 1948. لهذا أقول إنه علينا بألا نتفاجأ من الحملة الشَرِسَة على الأونروا، هذه المؤسّسة لم تعد فقط مؤسّسة إغاثة. هي مؤسّسة للتعليم والطب، كم من الأفراد الذين قابلتهم في الغرب من أطباء ومهندسين وغيرهم هم خرّيجو مدارس الأونروا، وإذا تحدّثنا عن غزّة فإن ثلثيّ سكان غزّة هم لاجئون من يافا وحيفا وغيرها، لهذا فإن الدول الغربية من أجل إرضاء الكيان وهي دول أغلبها استعمارية قامت بخفض المُخصّصات التي كانت ملتزمة بها عبر سنوات، أكثر من سبعين عاماً من مساعدات للأونروا، ولكن للأسف العديد من الدول تجاوبت مع الكيان، ولكن الآن حاولنا مع بعض الدول أن تستمر في الدعم أو على الأقل ألا تتوقّف عن الدعم لأن هناك العديد من الدول للأسف خفّضت دعمها للأونروا لأن الأونروا هي شاهِد على اللاجئين وهذا ما يُزعِج الكيان الصهيوني بموجب قرار الأمم المتحدة 194. هو لا يحبّ من أحد أن يحتفل بهذه الذكرى.
بيار أبي صعب: أستاذ مراري سؤال أخير، الأمم المتحدة هي تلك الآلة الضخمة التي تبدو للبعض مُتهاوية في بعض أجزائها، إلى أيّ مدى ساهم عجز المجتمع الدولي في وقف الإبادة وكذلك احتقار إسرائيل وراعيها الأميركي للقانون الدولي والقرارات الدولية، إلى أيّ مدى ساهم كل ذلك في تقويض أساسات هذه الهيئة الأممية الأساسية والطعن في شرعيّتها ودورها وصدقيّتها؟
عبد المجيد المراري: تخلّي المجتمع الدولي عن حماية هذه المؤسّسة وعبرها حماية القانون الدولي وتطبيقه كان وراء تقويض هذه المؤسّسة وجعل الشكّ يتسرّب إلى مَن كان يؤمن قبلاً بهذه المؤسّسة، موقف الأمم المتحدة وعدد من الخبراء خاصةً السيّد غوتيريش كان موقفاً مشرّفاً جداً على الأقل أنه فعّل مجموعة قرارات كانت بيده، الفصل 99 وقرار المجاعة، قائمة العار التي تحمّل مسؤوليّته الكاملة فيها وغيرها من القرارات، توصيفاته القانونية كانت توصيفات مهمّة جداً لم يتجرّأ الأوروبيون على تبنّيها، سقفه في تعاطيه مع جريمة الإبادة الجماعية، كان معه عدد من خُبراء الأمم المتحدة على رأسهم المقرّران الخاصان بالإضافة إلى السيّدة ألبانيزي وغيره، بمعنى أن الأمم المتحدة اضطلعت بما يمكن أن تضطلع به وأبرأت ذمّتها لكن المجتمع الغربي خاصةً الدول الأوروبية الكبرى للأسف الشديد تملّصت من التزاماتها. الآن هي تعترف بفلسطين لكن هل تجرؤ أن تعترف بجريمة الإبادة الجماعية؟ هذا هو المطلوب منها بعد الاعتراف بفلسطين يجب أن نخرج باعترافاتٍ رسمية من هذه الدول بجريمة الإبادة الجماعية. ماكرون حتى الساعة يرفض أن يعطي أيّ توصيف لما يقع ولم يجرؤ على توصيفه بجريمة حرب، سُئِل في وسائل الإعلام هل تلك الأعمال ترقى إلى جرائم حرب فكان يتهرّب دوماً من الإجابة، وعندما سُئِل عن جريمة الإبادة الجماعية قال هذا شأن المؤرّخين وهذا لا يليق برئيس الدولة أن يقول ذلك، المؤرخّون هم جزء من الفرق القانونية والدولية الذين يمكنهم أن يكيّفوا أعمال الإبادة الجماعية ولكن هناك أصحاب اختصاص آخرون مؤهّلون للتكييف. الدول الأوروبية تتحمّل المسؤولية وهم سيُجرّون إلى المساءلة لأن هناك جريمة الإبادة الجماعية منصوص عليها في المادة الثانية ولكن في المادة الثالثة هناك أشخاص آخرون سيُجرّون إلى المُساءلة وهم مَن يحرِّضون على هذه الجريمة ومَن يشارك بها وفق المادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية الفقرتين الرابعة والخامسة. أعتقد أن بعض الدول العربية ساهمت في التحريض على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وهذا ثابت لدى خبراء محكمة الجنايات الدولية، هم يعلمون أن هناك بعض الدول ساهمت في التحريض على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية من أجل التخلّص من فصيلٍ معيّنٍ في فلسطين، ثم هناك مشاركة من دول أوروبية، نيكاراغوا توجّهت إلى محكمة العدل الدولية ضدّ ألمانيا وكذلك الولايات المتحدة الأميركية التي تساهم حتى الساعة في تبييض وجه إسرائيل والتغطية عليها في جريمة الإبادة الجماعية بالإضافة إلى دعمها والسخيّ بالسلاح والتمويل والخبرة وغيرذلك، فبالتالي بعض الدول كذلك ستُجرّ إلى المُساءلة والمحاسبة وقد بدأ التحرّك، في ألمانيا تقدّم عدد من الزملاء بدعوى ضدّ الحكومة الألمانية وضدّ عدد من الشخصيات السياسية في ألمانيا بينهم المستشار الألماني ووزير الخارجية بسبب المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية والتستّر عليها.
بيار أبي صعب: أشكرك أستاذ عبد المجيد، دكتور نشابّة الأمم المتحدة اليوم، حفظ السلام، الدفاع عن حقوق الإنسان، التنمية المُستدامة، حماية القانون الدولي الإنساني، ماذا بقي منهم؟ عمر نشّابة: والمشكلة الأكبر في القرار الأخير عندما كما كان هناك مشروع لوقف إطلاق النار وكل العالم يوافق وكل مندوبي الدول يوافقون على هذا القرار ولكن في مجلس الأمن اعترض الأميركي على هذا القرار المُلزٍم قانونياً وبالتالي عطّله لأن للدول الخمس إمتيازات حقّ الفيتو، ولكن بنفس الوقت الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو تحدّث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن خطوةٍ كان قد تناولها كريغ مخيبر، كان قد تحدّث عن الإتحاد من أجل السلام وهذه خطوة يمكن اتّخاذها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عندما يكون هناك ثلثيّ الجمعية العامة أعتقد، يمكن اتّخاذ قرار بفرض عقوبات أو حتى بتشكيل قوّة عسكرية لفرض السلام وفرض وقف إطلاق النار والإجبار على إدخال الطعام والمساعدات إلى الأشخاص المُُحاصرين بشكلٍ غير قانوني وبهذا الشكل الوحشي للمجازر الإسرائيلية المتواصلة منذ سنتين. وبالتالي يجب الحفاظ على الأمم المتحدة رغم كل المشكلات، طبعاً هناك تعديلات أساسية يجب أن تُدخل ربّما توسيع مجلس الأمن الدولي وأمور أخرى كانوا أيضاً قد تحدّثوا بشأنها، ولكن الحفاظ على الأمم المتحدة أمر أساسي، الأمم المتحدة أُنشئت لإنهاء الحروب، لتنظيم مجتمع عالمي خارج قواعد الغاب، وتكون هناك بعض القواعد التي نتّفق بشأنها، لديها رسالة مقدّسة لمساعدة الناس على القضاء على الفقر، لتطوير المجتمعات، يجب الحفاظ على هذه المنظمة . طبعاً هناك تحدٍّ كبير لأن الرئيس دونالد ترامب منذ ولايته الأولى يعتبر أن هذه المنظمة لا تعني شيئاً ويجب التخلص منها وربّما استبدال هذه المنظمة بإدارته.
بيار أبي صعب: أشكرك جداً دكتور نشّابة. كلمة الختام للمهاتما غاندي "لا يمكن للخطأ أن يصبح وجه حق بسبب سعة انتشاره، ولا يمكن للحقيقة أن تصبح خطأً لأن أحداً لا يراها". شكراً لضيوفي: عمر نشّابة، رانيا ماضي، عبد المجيد المراري مع حفظ الألقاب، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.