التعافي الجهادي: ولادة القوة من الألم واستعداد لزمن الحرب الطويلة

التعافي الجهادي رؤية تؤمن بأن بقاء المقاومة لا يتحقق بالانتصار في معركة واحدة، بل بقدرتها على الصمود في معارك الوعي والزمن. لا يعود "التعافي" مجرد استراحة محارب، بل فعلاً تأسيسياً لمجتمع يعيش المقاومة كهوية.

  • القوة المادية وحدها لا تكفي؛ فالتعافي يشمل أيضاً البنية الاجتماعية والروحية للمجتمع المقاوم

حين تضع الحروب أوزارها، تنشغل الأمم عادة بترميم ما تهدّم، غير أن بعض الحركات لا تكتفي بالترميم، بل تحوّل الألم إلى طاقة بناء. في هذا المعنى، يبرز مفهوم "التعافي الجهادي"، الذي طرحه الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، كمفهوم فلسفي واستراتيجي في آن، يتجاوز حدود المعالجة الميدانية إلى إعادة إنتاج الذات المقاومة كمنظومة حضارية متكاملة. هو ليس إعلاناً عن توقف الحرب، بل انطلاقة نحو زمن الاستعداد الدائم، حيث يتحول الوجع إلى وعي، والخسارة إلى خبرة، والاستهداف إلى حافز لمراكمة القوة.

يُعيد هذا المفهوم إلى الواجهة مقولة فريدريش نيتشه: "ما لا يقتلنا يجعلنا أقوى"، إذ تتجسد في التجربة المقاومة فكرة أن الألم لا ينهك بل يوقظ، وأن الوعي الذي يُبنى تحت النار أكثر ثباتاً من ذاك الذي يُصنع في الهدوء. كما يلتقي هذا المنحى مع فلسفة مالك بن نبي حول "قابلية الأمة للنهوض"، حيث لا تنهض المجتمعات من الخارج، بل من داخل جراحها. من هنا، يصبح التعافي الجهادي فعلاً حضارياً، لا مجرد استعادة للقوة، بل تأسيساً لمرحلة من التحضّر المقاوم استعداداً لحرب طويلة ومفتوحة مع العدو الإسرائيلي على مختلف الجبهات: العسكرية، الاقتصادية، النفسية والاجتماعية.

في البعد العسكري، يمثّل التعافي الجهادي إعادة هندسة القوة لا ترميمها. فالمقاومة، كما يشير الشيخ قاسم، تعيد صياغة بنيتها القتالية بما يواكب تحوّلات الميدان: تطوير منظومات الصواريخ الدقيقة، وتعزيز القدرات الدفاعية والهجومية. كما يترافق ذلك مع تطور نوعي في الحرب الإلكترونية، الطائرات المسيّرة وأنظمة القيادة والسيطرة. إن هذا المسار ليس تعويضاً عن خسائر، بل تحضيراً استراتيجياً لحرب طويلة يدرك حزب الله أنها ستكون اختباراً لقدرة المشروع المقاوم على البقاء في وجه التفوق التكنولوجي الإسرائيلي والدعم الغربي المفتوح.

لكن القوة المادية وحدها لا تكفي. فالتعافي يشمل أيضاً البنية الاجتماعية والروحية للمجتمع المقاوم. إذ تعمل مؤسسات الحزب الاجتماعية والإنسانية على رعاية عائلات الشهداء والجرحى، وتثبيت الوجود في القرى الحدودية، وتحقيق استدامة في مجالات الزراعة والاقتصاد المحلي. في المقابل، يخوض الإعلام معركة الوعي، ويعمل على كسر احتكار السردية الإسرائيلية والغربية، ليقدّم نموذجاً مقاوماً للحقيقة في زمن التضليل. فالمجتمع هنا ليس خلف الجبهة، بل هو جزء عضوي من الجبهة، يصمد، ينتج، ويتفاعل ضمن ثقافة المقاومة التي باتت عنصراً مكوّناً لهوية الناس لا مجرد موقف سياسي.

ومن أبرز أبعاد التعافي الجهادي ما يتعلّق بتنشئة الجيل الجديد على فكر المقاومة. فالتجارب أثبتت أن ما يُبنى في الميدان يترسخ في الوعي فقط عبر التربية المنظمة، وهنا يبرز دور كشافة الإمام المهدي كذراع تربوية - فكرية للمشروع المقاوم. هذه الكشافة لا تُخرّج مقاتلين بالمعنى العسكري فحسب، بل تبني إنساناً مؤمناً، منضبطاً وواعياً لقضيته. إنها مؤسسة تُزاوج بين الروح الإيمانية والعمل التطوعي، بين التربية العقائدية والانفتاح الاجتماعي، لتُهيّئ جيلاً قادراً على حمل راية المقاومة بفكرها وقيمها، لا بسلاحها فقط. هذا الجيل، الذي ينشأ على ثقافة الخدمة والانضباط والتضحية، يشكّل اليوم ضمانة استمرارية المشروع في مواجهة حرب طويلة الأمد، حيث الوعي يصبح السلاح الأول.

ويتكامل هذا البعد التربوي مع الدور الذي تضطلع به مؤسسة جهاد البناء بوصفها أحد أركان التعافي المادي والمعنوي. فمنذ تأسيسها في التسعينيات، مثّلت هذه المؤسسة الوجه الإنمائي للمقاومة، تُعيد بناء ما دمّره العدوان وتحوّل الركام إلى رموز حياة. لكن دورها تجاوز الإعمار التقليدي إلى بناء ثقافة الاعتماد على الذات، وتنمية المجتمعات الريفية، وتأمين فرص عمل للشباب، ودعم الزراعة والصناعات المحلية. في كل مشروع تُقيمه "جهاد البناء"، من تعبيد طريقٍ في الجنوب إلى تأهيل مدرسة في البقاع، تتجلى فكرة أن المقاومة ليست نقيض الحياة بل أداتها لإعادة إنتاجها. إنها مقاومة تنبت من الأرض كما من الوعي، وتعتبر أن معركة البقاء في القرى المحررة جزء من معركة الدفاع عن الوطن. بذلك يتحول التعافي الجهادي إلى جهاد بناء مستمر، يرسّخ ثقافة النهوض الذاتي كأحد أعمدة الحرب الطويلة القادمة، حيث التنمية تُصبح شكلاً من أشكال المقاومة.

أما تنظيمياً، فإن التعافي الجهادي يشمل إعادة تجديد البنية المؤسسية، وإعداد كوادر شابة في القيادة، وتحديث منظومات الدفاع المدني والهيئة الصحية لتواكب أي تصعيد محتمل. كل ذلك يعكس رؤية حزب الله للصراع ليس كجولة تكتيكية، بل كمسار تاريخي ممتد يتطلب تكاملاً بين البنية العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. إنها مقاومة تتحرك على خطين متوازيين: تطوير أدوات الحرب، وبناء شروط الحياة.

في جوهره، التعافي الجهادي هو عبور من الألم إلى الفعل، ومن ردّ الفعل إلى الوعي الاستراتيجي. هو رؤية تؤمن بأن بقاء المقاومة لا يتحقق بالانتصار في معركة واحدة، بل بقدرتها على الصمود في معارك الوعي والزمن. من هنا، لا يعود "التعافي" مجرد استراحة محارب، بل فعلاً تأسيسياً لمجتمع يعيش المقاومة كهوية. وبينما يتحضّر العدو لجولات من الضغط العسكري والسياسي، تبني المقاومة بيئتها على قاعدة أن الحرب المقبلة قد تكون طويلة، لكنها أيضاً حرب وعي وإيمان وصبر. وكما قال الشيخ نعيم قاسم: "من أراد أن يواجه مشروع الاحتلال فعليه أن يبني مشروعه على كل المستويات"، فإن هذا التعافي ليس نهاية مرحلة، بل بداية زمن الاستعداد المستمر، حيث يولد النصر من داخل الوجع، وتُصاغ القوة من عمق التجربة الإنسانية.